كتب
ألمانيا والشرق الأوسط.. الحياد غطاء للمصالح الاقتصادية
الكتاب: ألمانيا والشرق الأوسط منذ زيارة القيصر فيلهلم الثاني في العام 1898 حتى الوقت الحاضر
المؤلف: رولف شتاينغر
الترجمة: د.لورنس الحناوي
الناشر: المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب ـ الكويت
سنة الإصدار: 2018
خلال العقود الأولى من القرن الماضي، وعلى عكس قوى استعمارية غربية بسطت نفوذها العسكري والسياسي في أجزاء مختلفة من المنطقة العربية، ظلت ألمانيا أشبه ما تكون بالحاضرة الغائبة عن هذا المشهد الفج. لكن سياساتها الداخلية والخارجية، التي يمكن المجادلة بقوة بشأن حياديتها، التي تدعيها، ساهمت بشكل فعال في خلق وتكريس أكبر مآسي هذه المنطقة، ألا وهي قيام دولة الاحتلال الإسرائيلي.
منفعة مزدوجة
تبدأ القصة، بحسب الباحث والبروفيسور الألماني رولف شتاينغر، مع القيصر فيلهلم الثاني صاحب العلاقة المتينة مع الدولة العثمانية، والمتحمس، بقدر لا بأس به من الخبث، لاقتراح تيودورهرتزل بإقامة دولة لليهود في فلسطين، وجدت ألمانيا القيصرية في تنفيذ هذا الاقتراح مصلحة اقتصادية وسياسية لها. فهي بذلك تتخلص من شعب تتصاعد مشاعر العداء له في جميع أنحاء أوروبا، وفي الوقت نفسه تكسب ولاء وامتنان هذا الشعب صاحب رؤوس الأموال المهمة، التي ستكون سببا في إنعاش اقتصاد حليفتها تركيا وتقويتها، ما يمكن أن يجنب الأخيرة تدخلات الشركات الأجنبية، ويبعد عنها شبح التقسيم، وهي أمور تحدث عنها القيصر بشكل صريح في رسائله إلى خاله الأمير فريدريش فون بادن، الذي كان حلقة وصل بينه وبين هرتزل.
يقول شتاينغر إنه عندما اطلع القيصر فيلهلم الثاني على تقرير بشأن المؤتمر الصهيوني الأول، كتب العبارة التالية على هامشه: "أنا مؤيد جدا لذهاب هؤلاء اليهود (استخدم تعبيرا كان يطلق قديما استهزاء باليهود) إلى فلسطين، وكلما أسرعوا في الهجرة إلى هناك كان أفضل. لن أضع لهم أي عقبات في الطريق". وفي العام 1898 خلال زيارته للأراضي المقدسة التقى القيصر في القسطنطينية هرتزل، وسأله عما "يتعين عليه مطالبة السلطان عبدالحميد الثاني به، فأجابه هرتزل: "شركة لشراء الأراضي تحت الحماية الألمانية".
قوبل الطلب برفض حاسم من السلطان عبدالحميد الثاني، ووفق ابنته، فإن السلطان قال: "لا أستطيع أن أبيع موطىء قدم من الأرض لأنها ليست ملكي، بل ملك شعبي. على اليهود أن يوفروا ملايينهم هذه. فعندما يجري اقتسام بلدي، من الممكن ربما أن يتمكنوا من الحصول على فلسطين مجانا. إن جثثنا فقط هي التي ستتفتت. ولكني لن أوافق على تشريح أجسادنا ونحن أحياء".
اقرأ أيضا: باحثون عرب يصدرون كتابا علميا عن السلطان عبد الحميد الثاني
لكن، هذا لم يمنع من حصول الإمبراطورية الألمانية على "امتياز بناء سكة حديد بغداد. كما شهدت العلاقات الاقتصادية تقاربا كبيرا، تلاه تعاون في المجال العسكري. وتولى الضباط الألمان مهمة تدريب وقيادة الجيش العثماني".
سباق ألماني ـ بريطاني لكسب تأييد الصهاينة
يشير شتاينغر إلى أن القيصر ظل مقتنعا بفكرة هجرة اليهود، وكان حاميا للمستوطنات اليهودية في فلسطين، وميسرا لدخول اليهود إليها، بغض النظر عن الدول التي جاؤوا منها. ومع اندلاع الحرب العالمية الأولى كان هناك 85 ألف مستوطن نصفهم من روسيا والنصف الآخر من ألمانيا. وربما يغيب عن ذهن الكثيرين أن ألمانيا سبقت اليهود بإنشاء المستوطنات في فلسطين، حيث أقامت مجموعات كبيرة من "الهيكليين"، وهم مسيحيون ألمان، مستوطنات في القدس ويافا وحيفا، وقدمت هذه المستوطنات لليهود نموذجا متطورا للحياة الزراعية والاقتصادية على الطراز الأوروبي، استفادوا منه في ما بعد في إنشاء مستوطناتهم.
في كتابه، الذي صدرت ترجمته عن المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب في الكويت، يلفت شتاينغر إلى سعي ألمانيا خلال الحرب العالمية الأولى لاستخدام الإسلام كسلاح في مواجهة "الحلفاء" وتحديدا بريطانيا، إذ رأت "أهمية قصوى" في إثارة التمرد والعصيان في جميع مناطق النفوذ البريطاني، بالاشتراك مع تركيا، من خلال إعلان "الجهاد لخوض الحرب المقدسة". لكن بريطانيا كانت في وضع أفضل بكثير مما تخيلت ألمانيا، عسكريا وسياسيا، واستطاعت كسب ولاء العديد من العرب في مقابل وعودها لهم بالاستقلال عن الخلافة العثمانية. وبعد سلسلة هزائم مني بها جيش القيصر والجيش العثماني، دخل الجنرال البريطاني إدموند اللنبي القدس في العام 1917 التي انسحب منها الجيش العثماني تجنبا لتدميرها.
اقرأ أيضا: أساطير الحرب الأولى في المشرق وأهميتها (1-5)
قبل سقوط القدس وبما يشبه السباق المحموم لكسب تأييد ودعم الصهاينة في الحرب الدائرة، أفشلت ألمانيا المحاولات العثمانية لطرد المستوطنين اليهود، بينما كانت دول "الحلفاء" تبذل الجهود لتحقيق رغبتهم في بناء دولة مستقلة لهم في فلسطين. وقبل أن يصدر وعد بلفور البريطاني، وبضغط من برلين، قدم الصدر الأعظم طلعت باشا في 12 آب (أغسطس) وعدا تركيا، يؤكد فيه "نية حكومة السلطنة العثمانية بالمعاملة الحسنة والدائمة للمستوطنات اليهودية الآخذة في الازدهار في فلسطين، من خلال ضمان حرية الهجرة والعمل ضمن حدود القدرة الاستيعابية للبلد، وكذلك الإدارة المستقلة ضمن القوانين السائدة"، وذلك بحسب بيان لوزارة الخارجية الألمانية سلمته لوفد ممثل عن المنظمات الصهيونية.
المصالح الاقتصادية أولا
بعد انتهاء الحرب، تقاسم الفرنسيون والإنجليز تركة الدولة العثمانية، وسقطت فلسطين بين فكي الانتداب البريطاني والاستيطان الصهيوني. ومع تصاعد التوتر في المنطقة حافظت ألمانيا المهزومة، على موقف أقل ما يوصف بالسلبية تجاه الأحداث، فلم تكن راغبة بالصدام مع بريطانيا أو اليهود، وفي الوقت نفسه، أرادت الحفاظ على مصالحها الاقتصادية مع جميع الأطراف. وأمام اقتراح بأن يقوم اليهود الألمان بدور الوساطة بين اليهود والفلسطينيين، جاء في إحدى المذكرات الصادرة عن الخارجية الألمانية في تموز (يوليو) 1930" انطلاقا من المصلحة الألمانية، فإنه يتعين اتخاذ الحياد وبشكل حذر حيال الصعوبات البريطانية في فلسطين والنزاعات العربية الصهيونية... إن من الواجب علينا قصر مهمتنا على رجاء وتمني أن تنجح حكومة الانتداب البريطانية في تحقيق السلام السياسي في فلسطين، وأن نفي بوعد تأسيس وطن قومي لليهود من دون انتهاك المطالب المشروعة للأكثرية العربية". أضف إلى ذلك أن المراسلات والتقارير التي ضمها الكتاب تفصح بشكل واضح عن إعجاب ألماني بقدرات الصهاينة التنظيمية والسياسية، وتقدير متدن جدا لسلوك العرب الذي وصف في إحداها بالطائش.
اقرأ أيضا: أساطير الحرب الأولى في المشرق وأهميتها (2-5)
توقف شتاينغر مطولا عند الفترة التي شهدت صعود هتلر، وأسهب في الحديث عن موقف الحاج أمين الحسيني من النازية، ومحاولاته للحصول على الدعم من زعيمها، وإن كان محقا في وصف شخصية الحسيني بـ"المثيرة للجدل"، فقد بالغ كثيرا عندما أشار في غير موضع إلى أن مشاعر كراهية اليهود عند العرب كانت سببا في هذا التقارب. والحقيقة أن المسألة برمتها كانت محاولات يائسة ومستميتة، افتقرت غالبا للنضج السياسي، لإنقاذ أرض عربية من احتلال صهيوني تم بتواطؤ غربي. وعلى كل حال، لم تأت سياسة ألمانيا النازية تجاه العرب بجديد لصالحهم، فقد استمر الدعم اللفظي الفارغ من أي التزامات، وفاقمت الأفعال من حدة الكارثة بهجرة المزيد من اليهود إلى فلسطين.
نفوذ سياسي ضعيف
مع تأسيس جمهورية ألمانيا الاتحادية وفي ظل أجواء الحرب الباردة، تشكلت سياسة تجاه الشرق الأوسط يلخصها شتاينغر في 4 عناصر: المسؤولية التاريخية تجاه الهولوكوست وإسرائيل، ومراعاة مصالح الشركاء الأوروبيين والولايات المتحدة الأمريكية في المنطقة، ومراعاة مصالح الدول العربية، والمطالبة بالتمثيل الحصري للجمهورية الاتحادية الألمانية (ألمانيا الغربية).
هذه السياسة قادت في المحصلة إلى اعتراف ألمانيا بـ "دولة إسرائيل" في العام 1965، وإلى عملية ابتزاز إسرائيلية، طويلة المدى، تحت غطاء المطالبة بتعويضات مالية عما لحق باليهود على يد ألمانيا النازية. تعويضات -رغم إبداء ألمانيا بعض المقاومة- اتسع نطاقها أحيانا ليشمل الأسلحة. وهو أمر وتر العلاقات العربية الألمانية، ودفع عددا من الدول العربية للاعتراف بألمانيا الشرقية وفتح ممثليات لها في عواصمها.
اقرأ أيضا: أساطير الحرب الأولى في المشرق وأهميتها (3-5)
يقول شتاينغر، إن ألمانيا تخلصت تقريبا من سطوة النفوذ الأمريكي على سياستها تجاه الشرق الأوسط مع مساهمتها الحاسمة في إصدار "إعلان البندقية" في العام 1980 وهو إعلان أوروبي، شدد على حق الفلسطينيين في تقرير مصيرهم، وطالب بإشراكهم (منظمة التحرير الفلسطينية) في إيجاد حل سلمي، وانسحاب إسرائيل من المناطق المحتلة وفق قرار الأمم المتحدة الرقم 242. ويرى أن ألمانيا في الوقت الحالي تربطها علاقات ممتازة بالدول العربية وبإسرائيل في الوقت نفسه، لكنه يقر بأنها لا تمتلك نفوذا سياسيا على التطورات في الشرق الأوسط، وهو أمر ينطبق كذلك على الاتحاد الأوروبي، فأمريكا هي من يقرر في الشرق الأوسط، على حد قوله.
اقرأ أيضا: أساطير الحرب الأولى في المشرق وأهميتها (4-5)
ورغم أن كتاب شتاينغر صادر بلغته الأصلية في العام 2015، فقد توقف في رصده لعلاقة ألمانيا بالمنطقة عند الحرب الأمريكية على العراق 2003، مشيرا إلى رفضها المشاركة قبل ذلك في العام 1990 بجنود في التحالف الدولي ضد غزو الكويت، بسبب القيود الدستورية، رغم مساهمتها في العتاد العسكري، وما كشف في أثناء الحرب عن قيام شركات ألمانية بتوسيع مدى صواريخ سكود العراقية، بشكل يسمح لها بالوصول إلى إسرائيل، وعن اشتراك شركات ألمانية بتطوير إنتاج الغاز السام العراقي.
يقول شتاينغر: "كان من قبيل المفارقة التجاء الإسرائيليين إلى الأقبية في تل أبيب، لحماية أنفسهم من الغازات السامة للصواريخ العراقية، مرتدين أقنعة واقية من الغاز ألمانية الصنع".
المزيد حول هذا الموضوع
الهند.. اغتيال غاندي وجدلية الديني والقومي والسياسي
الهندوس والمسلمون وغاندي في مواجهة احتلال بريطانيا للهند
غاندي كان مسؤولا عن تديين السياسة وتسييس الدين في الهند
