قضايا وآراء

دسترة الديكتاتورية

1300x600

بادئ ذي بدء، أنا لا يعنيني تعديل الدستور من عدمه، أو حتى وجوده من الأساس أو عدم وجوده أصلاً، في ظل دولة عسكرية وتحت حكم نظام فاشي مستبد، لا يعرف غير لغة الحديد والنار، فتلك الدساتير في تلك الأنظمة تكون هي والعدم سواء.. الدستور في العالم المتحضر، يعني ميثاقا أو عقد اتفاق مُلزم بين الحاكم وشعبه، يلتزم فيه كل طرف منهما بواجباته ويعرف كلاهما حقوقه ولا يتعداها، إلا أنه في العالم الثالث، عالم الديكتاتوريات العتيقة، في تلك الدول التي يحكمها الطغاة، تصنع فيها الدساتير وتغلف على يد الطاغية وعلى عينه، يصنعها لنفسه، ولا دخل للشعب فيها، فقد أعدت وجُهزت الصناديق سلفاً، وما مشاركته فيها إلا لتجميل شكل المسرحية أمام العالم الذي يعرف ويعي أكثر منا أنها مسرحية هزلية يسخر منها كثيراً، وربما أحيانا يأسى ويشفق على حال تلك الشعوب المقهورة المغلوب على أمرها...

لهذا أنا لم أهتم إطلاقاً بأن أكثر من ثلثي أعضاء لجنة في مجلس النواب المصري الذي صُنع داخل غرف المخابرات وعلى أعين رجاله؛ قد وافقوا على تعديل الدستور الذي أصدروه بعد الانقلاب، أي لم يمر عليه خمس سنوات بعد ويريدون الآن تعديله لدسترة عسكرة الدولة والديكتاتورية وإبقاء الحاكم إلى أبد الآبدين!!

 

 

تلك الدول التي يحكمها الطغاة، تصنع فيها الدساتير وتغلف على يد الطاغية وعلى عينه، يصنعها لنفسه، ولا دخل للشعب فيها، فقد أعدت وجُهزت الصناديق سلفاً، وما مشاركته فيها إلا لتجميل شكل المسرحية

الدستور الحالي كتبوه كما أرادوا وبالشكل الذي راق لهم من لجنة اختاروها بأنفسهم وعلى هواهم؛ تنفذ ما تأتمر به أطلق عليها "لجنة الخمسين"، وبالرغم من هذا لم يلتزم النظام الحالي بنصوصه، ولم تلتزم السلطة التنفيذية بحدودها، بل توغلت على صلاحيات السلطات الأخرى وشلت أيديها، لتمتد يد الحاكم وتبقى هي اليد العليا، يفعل ما يشاء وكيفما يشاء ومتى يشاء، دون أن توقفه أو تصده صلاحيات منصوص عليها في الدستور! فعلى سبيل المثال لا الحصر، كان موقع وزير الدفاع محصناً في الدستور ولمدة دورتين رئاسيتين، ولكن السيسي لم يعر اهتماماً بهذا النص في الدستور وتخطاه وعزله. لقد وضع السيسي هذا النص لنفسه حينما كان وزيراً للدفاع ويحكم من وراء ستار، وغير مطمئن لموافقة القوى الدولية والإقليمية على ترشحه للرئاسة، لكن عندما وصل لسدة الحكم لم يسمح لشريكه في الانقلاب أن ينازعه سلطاته، وخاصة في الجيش، خوفاً من أن ينقلب ضده ويفعل معه ما فعله هو مع الرئيس "محمد مرسي".

الدستور الحالي في مادته (65) من الباب الثالث المسمى "الحقوق والحريات والواجبات" يكفل حرية الفكر والرأى لكل إنسان بالقول أو الكتابة أو التصوير أو غير ذلك من وسائل التعبير، ورغم ذلك تمتلئ السجون بأصحاب الرأي والفكر، وجريمتهم الكبرى أنهم عبروا عن أرائهم على صفحاتهم الشخصية في شبكات التواصل الاجتماعي!

دستور الانقلاب يُلزم المُشرع في مادته (54) بتنظيم مدة الحبس الاحتياطي وليس في إطلاقها دون سقف معين، ومع ذلك لم يصدروا قانوناً ينظم الحبس الاحتياطي بل تركوه مفتوحاً ليكن سيفاً مسلطاً على الرقاب مرادفاً للاعتقال، إلى آخره من انتهاكات صارخة للدستور.

إنه دستور شكلي فقط، مزين بعبارات جميلة، وكلمات رنانة ونصوص فضفاضة، مثل الحريات الشخصية وحق المواطن والمساواه بين المواطنين والعدالة الاجتماعية وحقوق الإنسان ودولة المؤسسات والفصل بين السلطات.. الخ الخ، ولكن لا يطبق أي شيء منه، بل العكس تماماً، هو ما يحدث على أرض الواقع، فلا حقوق إنسان تُحترم، بل انتهاك لآدميته وتعد على كرامته وإنسانيته، ولا عدالة تُطبق، بل زاد عدد المعتقلين بلا وجه حق، وازدادت حالات الإخفاء القسري، وتشهد أقسام الشرطة والسجون مئات من حالات التعذيب التي رصدتها منظمة هيومان رايتس ووتش وغيرها من منظمات حقوق الإنسان، كما زادت حالات التصفية الجسدية خارج القانون!

ولا مساواة بين المواطنين تحدُث، فهناك فئات من الشعب تتمتع بكل الامتيازات المادية والعينية، مثل رجال الجيش والشرطة والقضاء، بينما بقية الفئات من الشعب لا تجد قوت يومها ولا مصاريف علاجها ولاتجد من يلتفت إليها أو يعريها اهتماماً.

 

 

 

الهدف الرئيس والأساسي والذي من أجله تجري مسرحية تعديل الدستور هو مد فترة الرئاسة لتصبح ست سنوات بدلاً من أربع سنوات، كما هي في الدستور الحالي، أي يبقى السيسي رئيساً لمصر حتى عام 2034

ولا توجد حُرمة للحياة الشخصية، ولعل أكثر مثال صارخ لذلك ما حدث مؤخراً في واقعة المخرج والنائب في البرلمان "خالد يوسف"، وتسريب فيديوهات فاضحة له مع بعض الفنانات، لمجرد أنه أبدى اعتراضه على تعديل الدستور. إنهم يسجلون ما يدور في غرف النوم لابتزاز مَن يعارضهم في أي قرار يتخذونه، حتى لو كانوا من أنصاره الحاكم. وخالد يوسف من أشد أنصاره، ولم يشفع له إخراجه لمسرحية "30 يونو"، وفبرك فيها الصور وأظهر الحشود أكثر من حجمها الحقيقي، فأرادوا اغتياله معنوياً.

وربما السؤال الذي يطرح نفسه: لماذا سارع في تعديل الدستور وهو لم يمض بعد العام الأول من ولايته الثانية؟!

في الحقيقة، وكما هو ظاهر للعيان، أن الهدف الرئيس والأساسي والذي من أجله تجري مسرحية تعديل الدستور هو مد فترة الرئاسة لتصبح ست سنوات بدلاً من أربع سنوات، كما هي في الدستور الحالي، أي يبقى السيسي رئيساً لمصر حتى عام 2034. هذا بالطبع كمرحلة أولى، أما المرحلة الثانية فمعلومة كما كانت المرحلة الأولى معلومة لدى الجميع، لذا لم نفاجأ بها، فالذي يأتي بانقلاب لا يمكن بأي حال من الأحوال أن يترك مكانه لرئيس غيره عبر صناديق الاقتراع، فهذا ضد منطق الأمور وعكس مجريات التاريخ.. الذي يأتي بالدبابة لا يذهب إلا بالدبابة أيضا، والسيسي جاء ليبق لا ليرحل، وقد سبق وأن قالها رداً عن سؤال لأحد الشباب الأجانب في مؤتمر الشباب العالمي، حينما سأله عن استمرار الحكام العرب في السلطة، فأجابه: "الموت يطال كل الناس"، أي أنه باق مدى الحياة، وأن الشيء الوحيد الذي يستطيع أن يقلعه أو يخلعه من مكانه هو الموت فقط!! على الرغم من أنه قال بعد الانقلاب أنه لن يحكم وليست لديه الإرادة ولا الرغبة في الحكم، وأن شرف العسكرية عنده أهم من أي شيء آخر! ولكن حينما تمكن من الكرسي واقتربت ولايته الأولى على الانتهاء وبدأ الاستعداد للانتخابات الرئاسية الجديدة، وما أعقبها من القبض على المُرشحين الفريق "أحمد شفيق" والفريق "سامي عنان" والعقيد "أحمد قنصوة"، قال موجهاً كلامه للفريق سامي عنان "طول مانا عايش ما حدش هيقرب من الكرسي ده"، مشيراً للمقعد الجالس فوقه.. خلاصة القول أنه قد حدد هدفه مبكراً، منذ البداية، وعمل على تحقيقه، وربما الحلم الذي رآه في المنام أنه سيصبح رئيس مصر ورؤيته للرئيس "أنور السادات" وقوله له "أنا كمان كنت عارف أني هبقى رئيس الجمهورية"؛ هو الذي شجعه على المضي في تحقيق هدفه..

السيسي لا يهمه في تعديل الدستور، غير تعديل النص الخاص بفترة الرئاسة فقط أما الباقي فهي تفاصيل لتجميل المشهد ليس أكثر، فهو مثلا ليس في حاجة أن يكون رئيساً أيضا للمجلس الأعلى للهيئات القضائية، ذلك المجلس الذي سيُستحدث في التعديلات الجديدة سيضاف لرئاسته للمجلس الأعلى للقوات المسلحة ورئاسته للمجلس الأعلى للشرطة، أي أنه سيجمع بين رئاستي السلطتين التنفيذية والقضائية، وهو كذلك بالفعل بدون تعديل للدستور ومن غير مسميات.. هو يجمع هاتين السلطتين وأضف لهما أيضا السلطة التشريعية بقبضة يده يحركهم كيفما يشاء!!

 

 

 

التعديلات الكارثية المقدمة ستسند مهمة حماية الديمقراطية والدستور والدولة المدنية للمؤسسة العسكرية، ليكون ذلك غطاء لكل تدخل عسكري لاحقاً ضد بعض القرارات والسياسات العامة التي لا تروق للمؤسسة العسكرية

لقد بدأ العمل لهذه الخطوة، بتمهيد الرأي العام لقبول فكرة تعديل الدستور منذ أول يوم لتوليه السلطة، سواء من بعض الشخصيات المحسوبة على النظام، أو من رجال الإعلام الفاجر، أو منه هو شخصياً في إحدى خطاباته عام 2017. ولعل أبرز ما كتب أخيراً وأسرع في العد التنازلي لتعديل الدستور هو ما كتبه الصحفي الملاكي له ولسان حاله، "ياسر رزق"، رئيس تحرير جريدة الأخبار، في هذا الشأن، مُطالباً بضرورة تعديل الدستور وإنشاء مجلس أسماه مجلس "حماية الدولة وأهداف ثورة يونيو"، على أن يترأس المجلس "عبد الفتاح السيسي" بوصفه مؤسس نظام 30 يونيو ومطلق بيان الثالث من يوليو، التي قضت على ثورة يناير..

إذن هو يريد تأسيس للنظام الإمبراطوري أو النظام الأبوي الذي يظل قابعاً فيه في سدة الحكم مدى الحياة، ويكون الرئيس من بعده مجرد دمية يحركها لتنفيذ قراراته، بالضبط كما فعل بعد الانقلاب ومجيئه برئيس المحكمة الدستورية العليا ليكون رئيساً للبلاد شكلياً، أي يظهر في الصورة فقط، بينما هو الحاكم الفعلي من وراء الكواليس، لكن في هذه المرة سيظهر على المسرح وسيشاهده الجماهير، إنه الرئيس الأعلى للبلاد! لهذا، فإن من التعديلات الكارثية المقدمة ستسند مهمة حماية الديمقراطية والدستور والدولة المدنية للمؤسسة العسكرية، ليكون ذلك غطاء لكل تدخل عسكري لاحقاً ضد بعض القرارات والسياسات العامة التي لا تروق للمؤسسة العسكرية، مهما كانت تصب في مصلحة الشعب وتطور البلاد..

ولعل هذا هو أخطر ما في التعديلات المقترحة، فهي تعني هيمنة الجيش على الحياة العامة ووضعه في مواجهة مع الشعب..

فإذا كان عبد الناصر قد أسس نظام الحكم العسكري في مصر، فإن السيسي يعمل الآن على دسترة هذا النظام العسكري!