سواء جاءت أحداث 5 تشرين أول (أكتوبر) 1988 في الجزائر عفويّة، بمعنى النتاج الطبيعي لتراكمات طالت سنين عديدة، أو هي من فعل فاعل، فالجزم قائم في البلاد، أنّها (أيّ الأحداث) شكّلت قطيعة كاملة بين مرحلتين، بل يمكن القول إنّها، إضافة إلى استقلال البلاد و"الثورة التصحيحيّة" (إنقلاب بومدين على بن بلّة في 19 حزيران / يونيو 1965)، تمثّل التحوّل الأكبر وأحدّ أهمّ المحدّدات، إن لم يكن أهمّها، حين قطعت قطعا كاملا مع أحاديّة الحزب الحاكم وما يتبعه ويؤسّس لهذا القطع في الآن ذاته، من اعتراف أو قبول أو هو تسليم (مكرهًا في غالب الأحيان) بوجود قوى سياسيّة أخرى، ليس فقط أصبحت تحتلّ مكانة مهمّة ضمن المشهد السياسي الجزائري، بل صعدت إلى مرتبة لم يكن لأحد أن يتخيلها أو يحلم بها، قبل لحظة من انطلاق أحداث عنف داخل ثورة من الشعب إلى الشعب، وفق الشعار الذي أطلقه الرئيس الحاكم آنذاك الشاذلي بن جديد، في محاولة منه لتجاوز تركة سابقه الرئيس هواري بومدين.
وجب التمييز في جلاء، معرفيّا على الأقلّ بين الشرارة التي أشعلت الأحداث من جهة، مقابل "برميل البارود" الذي تراكم على مدى حكم الرئيس الشاذلي بن جديد من جهة أخرى، دون أن ننسى أو نُغفل دخول جهات عديدة (من داخل منظومة السلطة ومن خارجها) على الخطّ سواء للتأثير في الأحداث أو ركوبها، والسعي للسير بها في طريق يريده كلّ طرف.
الرئيس الطارئ
للتذكير، حاول الرئيس الشاذلي بن جديد منذ اليوم الأوّل لجلوسه على سدّة الحكم، أن يسبغ نفسًا منفتحًا، يقطع أو على الأقلّ يخفّض من النفس الصارم والمتشدّد، الذي ميّز فترة سلفه هواري بوميدن، على المستويين السياسي والاقتصادي، خاصّة.
بحكم طبيعة السلطة والتوازنات والصراعات بين القطبين الحاكمين داخل الدولة، أيّ المنظومة العسكريّة مقابل منظومة حزب جبهة التحرير الوطني، لم يكن أمام هذا الرئيس الطارئ على مشهد لم يكن من وجوهه الساطعة والمؤثرة، سوى الولوج من بوّابة الاقتصاد أو هو الاستهلاك، حين بدأت تتوفّر (بمقدار) عديد المواد الاستهلاكيّة، كانت إلى وقت قريب أي غير متوفرة، وهو التعبير الذي يلاقي من يقصد الأسواق الحكوميّة للتبضّع.
يمكن الجزم أنّ الأطراف الإسلاميّة كانت الأسرع (من خارج السلطة) للسعي للتأثير في الأحداث والاستفادة منها، مع التأكيد على أنّها لم تكن طرفا، لا في الاندلاع (المباشر) للأحداث ولا في انتشارها
اقرأ أيضا: بعد مدين.. انتهاء جيل الجنرالات السبعة الأقوياء بالجزائر
مثلت هذه الأحداث وما صاحبها من ارتفاع في عدد الضحايا، فرصة لكلّ القوى، من داخل النظام وخارجه، سواء للتأثير في مجراها أو (وهذا الأهمّ) قطف ثمارها، مع ترسّخ يقين لدى الجميع، بأّنّ عهد ما قبل 5 تشرين أول (أكتوبر) ولّى وانقضى دون رجعة، سواء لغياب التوازنات التي كانت قائمة، وخاصّة بروز قوى جديدة، أصبحت تعلن صراحة عن حقّ لها لا يمكن السكوت دونه، تحت شمس السياسة.
المسعى الإسلامي
يمكن الجزم أنّ الأطراف الاسلاميّة كانت الأسرع (من خارج السلطة) للسعي للتأثير في الأحداث والاستفادة منها، مع التأكيد على أنّها لم تكن طرفا، لا في الاندلاع (المباشر) للأحداث ولا في انتشارها (على الأقلّ في اليومين الأوّلين).
انطلق المسعى الإسلامي ضمن وجهتين:
أوّلا: حاول الشيوخ والقيادات أحمد سحنون ومحفوظ نحناح وعباسي مدني يوم 7 تشرين الأول (أكتوبر) 1988 المصادف ليوم الجمعة، التوجه إلى رئاسة الجمهورية لدعوة الرئيس الشاذلي بن جديد للمطالبة بوقف إطلاق الرصاص على المتظاهرين وكذلك تسريح الموقوفين، لكن مصالح الأمن منعتهم من الوصول إلى مقر الرئاسة.
ثانيا: سعت بعض القيادات الإسلاميّة للسيطرة على الشارع أو بالأحرى العمل على ملئه، سواء رغبة في الظهور في صورة الطرف الأقوى في هذا الميدان أو تثمين رأسمال هذا لاحقًا: انطلق الآلاف من الشباب يوم 10 تشرين الأول (أكتوبر) من أحياء شعبيّة في العاصمة في مسيرة، بناء على نداء من الشيخ علي بن حاج (أحد قيادات الجبهة الاسلاميّة للإنقاذ لاحقا). حسب روايات عديدة، أطلَقَ مجهول النار عند المرور أمام المديرية العامة للأمن، فردّ الجيش بالمثل، وكان عدد الضحايا 43 ضحية.
تبيّن بما لا يدع للشكّ حينها:
أوّلا: عجز الوعاء السياسي الجزائري القائم، عن استيعاب جميع الأطراف القائمة ضمن هذا المشهد الطارئ والناشئ بفعل الرصاص ورائحة الدماء.
ثانيا: عجز الآليات السياسيّة المنظمة لنظام الحكم والسلطة فيها عن استيعاب المنطق الجديد الذي صبغ الواقع الناشئ، خاصّة مع ميلاد أو ظهور هذا الطرف الإسلامي، القادم على عجل وقوّة.
كان لا بدّ من مَخرج لهذه الأحجية بإيجاد نقاط تقاطع، وإن كانت واهية أو مؤقتة، تمكّن في الآن ذاته، النظام من الحفاظ على ذاته، بمعنى سيطرته على واقع الأمر والمسك بدواليب الدولة، وكذلك، تقديم ما يجعل هذا العمق الشعبي، وخاصّة القوّة السياسيّة الطارئة (الإسلاميون خصوصًا) في الآن ذاته، تقف عند حدود هذه الدولة من باب الخشية وكذلك الاعتراف بشرعيتها أو بطشها وشدّة بأسها، وثانيا، وهذا الأهمّ، قطع الطريق أمام أيّ اهتزاز جديد يعمّق الأزمة ويزيد من تعميق الهوّة بين الأطراف الفاعلة ضمن (هذا) المشهد السياسي الجزائري المفتوح (حينها) على المجهول.
في خطاب فاصل نقله التلفزيون الحكومي يوم الأحد 9 تشرين الأول (أكتوبر)، أمسك رئيس الجمهوريّة الجزائريّة الديمقراطيّة الشعبيّة، العصا من الوسط:
أوّلا: أصّر على علويّة الدولة من خلال فرض حظر التجول ليلا في العاصمة وضواحيها ونشر الجيش،
ثانيا: وعد بإصلاحات في جميع المجالات السياسية والاقتصادية.
تحولات في الخطاب السياسي
لم يأت الخطاب على التفاصيل، أو هو لم يكن في حاجة شديدة لذلك، حين يكفي الجزم أنّها المرّة الأولى منذ استقلال البلاد أو حتى مند اندلاع الثورة التحريريّة، أن مارس رأس السلطة الأعلى هذا القدر من النقد الذاتي، الذي شكّل سابقة لم يكن لأحد أن يتخيلها منذ أسابيع. من ثمرات هذا الخطاب الأولى سقوط رأس الحزب الأوحد والوحيد الحاكم جبهة التحرير الوطني شريف مساعدية ليخلفه عبد الحميد مهري.
فهم العمق الشعبي حينها وكذلك الطبقة السياسيّة أن التغيّرات ستذهب أبعد من مجرّد الصورة الظاهرة للنظام. وعد الرئيس الجزائري بدستور جديد. أقر التعددية السياسية والإعلامية في الجزائر، وفتح مجال النشاط واسعا لكل التيارات السياسية مهما كان انتماؤها، وترسّخت حرية التعبير أيضا، كما فتح المجال الاقتصادي للقطاع الخاص.
الكتاب الذي كان يجب أن يهز الجزائر!
الجيش يقصي جبهة الإنقاذ ويعود بالجزائر إلى المربع صفر (2من2)
الجزائر: من الحزب الواحد إلى انتخابات فاز بها الإسلاميون (1من2)