تقذف بلدان جنوب العالم كل يوم الآلاف من شبابها صوب
الشمال الغني والمترف، والمتمتع بالديمقراطية والعدالة. وبقدر ما بات الشمال يشكّل حلماً للكثير من البائسين والطامحين على السواء، فإنه في نظر السلطات الحاكمة في
الجنوب مكباً لهؤلاء الذين قد يتسبب بؤسهم وطموحاتهم بمشاكل تؤرق تلك السلطات وتفسد عليها استمتاعها بالسلطة والثروة.
يهرب الناس من الشرق الأوسط وأفريقيا وأمريكا اللاتينية، وبعض بلدان آسيا، من العنف والفقر، تسحقهم سلطات بلادهم بسياساتها النيوليبرالية المتوحشة، وبالفساد المنتشر بكثافة وفي كل مؤسسات هذه الدول، وتهزمهم قلة الحيلة في مواجهة أجهزة القمع التي لا ترحم، حيث قيمة الإنسان في هذه البلدان لا تتعدى قيمة حشرة ضارة.
يقف عشرات الآلاف من أمريكا الوسطى
على حدود المكسيك مع أمريكا؛ يطمحون لدخول بلاد الفرص، بعد أن ضيّقت بلدانهم عليهم فرص الحياة والعمل، ومثلهم يقف الآلاف من الشرق أوسطيين والأفارقة في جزر اليونان؛ للولوج الى العتبة الأوروبية بحثاً عن الأمان وفرص العمل وتأمين مستقبل أفضل لأولادهم.
تسحقهم سلطات بلادهم بسياساتها النيوليبرالية المتوحشة، وبالفساد المنتشر بكثافة وفي كل مؤسسات هذه الدول، وتهزمهم قلة الحيلة في مواجهة أجهزة القمع
منذ سنوات ما بعد خروج الإستعمار من هذه البلاد، تحولت هذه البلدان شيئاً فشيئاً إلى ما يشبه إقطاعات خاصة يحكمها ويملكها فئات صغيرة؛ تجيّر قوانين البلاد وسياساتها وأنشطتها لفائدتها. وتتوازع هذه الفئات ثروات البلاد ومواردها فيما بينها، وما يتبقى من فتات تجري قسمته لنصفين؛ نصف تعطيه لحراسها (الأمن والجيش وموظفيها والقائمين على خدمتها)، وفتات الفتات تنفقه على بعض الخدمات لتحافظ على مظهر جمهورياتها وممالكها، ليقال إن هناك دول موجودة بالفعل.
الأمر محزن بالفعل لمن ينظر لمصير غالبية شعوب دول الجنوب.؛ عندما نستذكر تلك الأمال العريضة التي رسمتها النخب الفكرية بعد الإستقلال عن التطوّر والاستقلال والعيش بكرامة، ومقارنة ذلك بالواقع المحايث ودرجة البؤس التي وصلت لها شعوب هذه البلدان، والتي أوصلتها نخبها السياسية والعسكرية الى حالة التخلي عن كل تلك الطموحات، بل والخلاص من البلاد نفسها، والتحسّر على المرحلة الاستعمارية وتمني عودتها.
نستذكر تلك الأمال العريضة التي رسمتها النخب الفكرية بعد الإستقلال عن التطوّر والاستقلال والعيش بكرامة
واللافت في الأمر، أن نخب السلطة في هذه البلدان، حوّلت نفسها الى وكلاء لدى الشركات الرأسمالية الكبرى، وإلى مورد لثروات بلادها لهذه الشركات، ومستورد لبضائعها ومنتجاتها، وتوزع الغنائم فيما بينها بالتراضي، بحيث يحصل المقربون من رأس السلطة على الحصص الأكبر، ويحصل الباقون على حصص تتساوى ومدى قربهم من نواة السلطة، وتتوازى مع طبيعة الخدمات التي يؤمنونها وينتجونها.
لم تصل شعوب بلدان الجنوب إلى هذه الدرجة من الإحباط واليأس في يوم وليلة، بل طالما ناضلت هذه الشعوب وتحدّت تلك السلطات التي واجهتها بالإفقار والعنف والتهميش، واستنجدت بالخارج، الاستعماري غالباً، كما حصل في أغلبية بلدان أمريكا الوسطى واللاتينية التي ارتبطت طغمها العسكرية بالقوّة الأمريكية، وكذلك في الشرق الأوسط، حيث يتوفر خليط من المستبدين المرتبطين بالقوّة الأمريكية والروسية والإيرانية.
يغلق الشمال أبوابه؛ يعلنها صراحة أنه لم يعد بحاجة للخدمات الرخيصة التي يقدمها القادمون من الجنوب، في ظل أزمة اقتصادية مديدة تهدّد بسقوط العديد من هذه الدول من خانة الأغنياء والمترفين
وبالاتجاه المقابل، فعلت النخب الحاكمة الكثيرمن الإجراءات والممارسات لتصل الى مرحلة القبض على أنفاس شعوبها والإطباق على صدور دولها، فصلت دساتير على مقاسها، قتلت وسجنت وشردت كل من يحمل شبهة ثورية تحررية، وقسّمت الشعوب إلى شرير يرفض سيطرتها، وطيب خانع وراض عن كل ما تنتجه تلك السلط، وجعلت مؤسسات دولها، وخاصة الأمنية والعسكرية، إقطاعات خاصة بها وملكية عائلية حصرية، أي أنها ابتلعت دولها بالكامل.
اليوم، يغلق الشمال أبوابه؛ يعلنها صراحة أنه لم يعد بحاجة للخدمات الرخيصة التي يقدمها القادمون من الجنوب، في ظل أزمة اقتصادية مديدة تهدّد بسقوط العديد من هذه الدول من خانة الأغنياء والمترفين، كما حصل لإسبانيا وإيطاليا واليونان.. وحتى الصين التي كانت تتقدم بسرعة صاروخية، أخذ اقتصادها يتباطأ ويتراجع، في مؤشر على حجم الأزمة الاقتصادية العالمية.
لا خيار أمام شعوب الجنوب سوى البحث عن بدائل لأوضاعها داخل بلدانها.. لن يطول الوقت حتى تصل لهذه النتيجة وتعمل عليها، فكل البدائل الأخرى لها صلاحية زمنية محددة، والحل هو في هدم هياكل الاستبداد والفساد في بلدان الجنوب التي استنزفت شعوبها وأفقرتها، وبناء هياكل تحت سقف سلطة الشعوب ومصالحها.