قضايا وآراء

أيها العرب.. تحرروا من السياسة فهي ليست سياسة

1300x600
عندما أرغب بتوجيه رسالة ما إلى جهة ما، أحرص على أن أكون قد مررت بتجربة أو ما يشبه التجربة في ما أتحدث عنه، وألا أتكلم من برج عاجي بعيد عن هموم الناس ومعاناتهم. ولعل بعض الجراح النازفة التي يعيش في ميدانها الشباب العربي اليوم هي جزء من رحلة كل فرد في عالمنا العربي مع بيئة السياسة ومتطلبات التعاطي معها.

قبل أكثر من عقد من الزمان قررت أن أعتزل السياسة، وأن أتحرر من كل قيد قد يحد من تفكيري وفهمي للحياة، سواء بالتنظير أو التوجيه أو الرؤى المسبقة أو حتى على مستوى النظريات ذاتها، وعندما بدأت التركيز على البحث العلمي، ودراسة العلوم السياسية كعلم تخصصي خضت تجربة بعيدة جدا عن كل ما عرفته وتعلمته يوما، فالسياسة التي يقال لنا أنها سياسة؛ ليست كذلك بتاتا، ولا تمت للعمل السياسي بصلة.

لقد نضجت النظريات السياسية بصورة كبيرة، وباتت السياسة تدخل في كل شيء في حياتنا، فالاقتصاد سياسة، والعلم سياسة، والمنح الدراسية سياسة، والمناصب الاجتماعية سياسة، ومؤسسات المجتمع المدني التي يجب أن تكون حرة ودرعا للمواطن في ظل التغول السياسي؛ باتت مشبعة بالسياسة، وارتهن المجموع لرؤية البعض القليل، وباتت الدول تقاد برؤية شخص أو اثنين، وميول هذا المسؤول أو ذاك النافذ، وبات الاقتصاد بيد بضعة موردين يتحكمون في الأسعار والقوت اليومي للمواطن البسيط والمعدم.

هذه ليست سياسة بالمطلق، والتعاطي معها بحد ذاته جريمة تستحق العقاب. فتخدير الشعوب، والاستئثار بالقرار والمكانة النفوذ والتأثير تحت مبررات الماضي السحيق، والتخوفات غير العقلانية والتبريرات الشخصية.. كل هذا لا يخول القائد أو المسؤول أو السياسي أن يتحكم بالمجموع، ومحبة الفرد لشخص ما ليست سببا في دخول هذا الفرد في مرحلة العبودية الفكرية والثقافية والتقليد الأعمى.

في قضايا مفصلية كثيرة عشناها مؤخرا، لمس القاصي والداني حجم الكارثة الحقيقية المترتبة على تغيير قواعد لعبة ما، أو انكشاف ترتيبات ما، أو فشل برنامج ما، ورأينا بالبحث والتمحيص كيف أن عددا غير قليل من شبابنا العربي كان يرتهن لشخص أكثر من ارتهانه بفكرة، وأن المجموع الشعبي لديه ميول جمعية باتجاه العاطفة لجهة ما ضد جهة أخرى ،بدون أن يكون الوعي هو رائد حركتها، وبلا فهم يؤهل هذه الجموع البشرية للاستمرارية في هذا الحب أو هذه العاطفة أو هذا الميل لجهة أو شخص أو فكرة ما، ناهيك عن الاستعداد للتضحية من أجلها.

لذلك، رغبت هذا اليوم بإرسال هذه الرسالة لكل شاب عربي بأن لا يكون أسير نظرية وهمية قام الإعلام بوضعها برأسه.. تحرروا من قيود الفكر الغبي والإعلام المزور والمشروعات الوهمية والقيادات المصطنعة والتيارات الزائفة، وابدأوا بالبحث عن الحق في ظل هذا السراب الشامل، ولا تقبل أبدا بأن تكون رهينة بيد جهة ما، أو شخص ما، ولا تنفق من عمرك دقيقة وأنت تثق بجهات أو دول أو ساسة أو تيارات أو أشخاص تحتاج الثقة بهم لتجارب وتجارب.

تحدث مع من حولك في أي قطر عربي، ستجد الجميع سياسيا ومحللا وفقيها وخبيرا اقتصاديا وعالما فيزيائيا وعقلا إداريا. وإذا تعمق النقاش بعد الدقيقة الأولى، وتركت العموميات لتدخل في التفاصيل، وجدت أن المجموع العام لا يفرق بين الولايات المتحدة والمملكة المتحدة والإمارات المتحدة، ولمست الفارق بين العموميات التي ذبحت الشباب وبين الوعي الحقيقي بالمسائل البسيطة التي هي أساسيات السياسة العامة والتي لا يسع الشاب المعاصر اليوم الجهل بها غائبة عنه، ولذلك تجده يغرق في اليأس والإحباط والشتم والسباب والغضب غير المبرر عند كل نقاش جدي، أو حدوث أمر لا يتخيله عقله، فأي سياسة هذه؟!

إننا مطالبون بحريتنا الذاتية، كما نحن مطالبون بفهمنا الذاتي للأحداث، وبأن يكون قرارنا الذاتي بعيدا عن العبودية الفكرية. فكما أن الإنسان يقف أمام خالقه فردا ليحاسب، سيقف في حياته أمام الأزمات فردا بعد أن يتخلى عنه القائد الملهم والسياسي المحنك ولدينا في الواقع مليون شاهد وشاهد. فهذه مسؤولية فردية للفهم والوعي، حتى لمن أراد أن يدخل عالم السياسة أو يعمل بها. لا تكن أسيرا لأحد، لا عبدا لجهة، ولا تطأطئ رأسك في شأن دون أن تفهم الأسباب والتداعيات وحجم المسؤولية وشكلها، وما تحققه منها وما يمكن أن تخسره فيها.