قضايا وآراء

وتبقى غزة قلعة الكرامة

1300x600

وبينما العالم كله مشغول في ملابسات قضية الصحفي المغدور، شهيد القلم #جمال_خاشقجي، وبعدما أُعلن عن التوصل لتهدئة ميدانية بين الجانبين، الصهيوني وحماس، برعاية وساطات دولية، ولاحت في الأفق بوادر انفراجة ما على سكان قطاع غزة، من ناحية فتح المعابر ووصول الغاز والكهرباء إلى القطاع، حدثت عملية مباغتة قامت بها مجموعة خاصة من قوات النخبة في جيش العدو الصهيوني في حلكة الظلام، لتنفيذ عملية أمنية في خان يونس، جنوب غزة، استهدفت خطف قياديين من القسام من قلب قطاع غزة.

وكعادتهم في مثل هذه العمليات التي يجيدونها ويقومون بها بحرفية شديدة، قاموا بالتمويه باستعمال حافلة مدنية، وتنكر بعض عناصرها بملابس نساء تخفى تحتها أسلحة هجومية فتاكة تستخدمها قوات النخبة في الجيش الصهيوني، ولكن يقظة رجال المقاومة الأشداء الذين اكتشفوهم منذ البداية واتبعوا خطواتهم وتحركاتهم، أفشل مخططهم وأوقعهم في الفخ الذي أعدته لهم المقاومة بحنكة شديدة وبمهارة عالية، وأصبحوا محاصرين، مما اضطر الجيش الصهيوني إلى التدخل الأهوج لاحتواء الموقف وإنقاذ المجموعة الخاصة من أيدي المقاومين، وحلقت الطائرات في الأجواء بكثرة وكثفت نيرانها لتشكيل غطاء ناري للقوة الهاربة، مما أدى إلى استشهاد ستة من رجال المقاومة، على رأسهم القائد الميداني "نور الدين بركة" والذي حضر إلى المكان للوقوف على الحدث والتعامل معه، وقد قيل أنه كان أحد المستهدفين بالخطف في العملية. وفي المقابل، استطاع رجال المقاومة أن يحدثوا خسائر فادحة في صفوف المجموعة المباغتة، وقتل منهم ضابط كبير وأصيب آخرون وفروا تحت حماية الطائرات الإسرائيلية.. 

أراد الجيش الصهيوني أن يغطي على فشله الذريع وينقذ سمعته، وليؤكد مقولته الشهيرة بأنه "جيش لايُقهر"، فلجأ إلى جولة تصعيد جديدة بغارات متواصلة ونيران كثيفة على القطاع، ودخل في مواجهة عسكرية مع حماس. وكعادته دائماً في القتال يلجأ لأجبن الأساليب وأنذلها باستهداف مواقع مدنية وقصفها، فقصف الأبنية السكنية واستهدف مدنيين، وأراد أن يُسكت صوت الإعلام كي لا يرى العالم هزائمه، فقصف تلفزيون الأقصى، وكادت المعركة أن تخرج عن السيطرة وتتحول لحرب شاملة لا يريدها الطرفان ولا يسعيان إليها..

تصدت المقاومة بجميع فصائلها من خلال غرفة عمليات مشتركة، لهذا العدوان السافر خلال يومين من التصعيد الحاد من قِبل العدو الصهيوني، وأثبتت المقاومة جهوزيتها لأي عدوان غادر، كما أثبتت وهم "القبة الحديدية" أمام الصواريخ التي تعبرها، فلا قبة احتجزتها ولا حديد حماهم من القذائف التي انهالت عليهم كالمطر، فلن يستطيعوا تسويقها بعد ذلك. فمن أصل 400 صاروخ لم تصد إلا مئة، أي ربعها، فكيف ستبيعها في سوق السلاح من بعد كشف فشلها أمام العالم؟ ولقد عبرت عن ذلك الكاتبة الصهيونية "شمئر مئيري" حينما كتبت: حققت حماس نصراً واضحاً في هذه الجولة بنتيجة "1 - صفر"، حيث تمثلت إنجازاتها في تجاوزات تأثير منظومة "القبة الحديدية" وضرب أهداف في العمق الإسرائيلي، وتمكنها من تحديد موعد وقف إطلاق النار بما يخدم مصالحها، كما أن رباطة جأش مقاتلي حماس يمثل نذير سوء لإسرائيل في المستقبل".

نستطيع القول إن المقاومة استطاعت أن تحقق باقتدار معادلة توازن الرعب، واستطاعت أن تغير قواعد اللعبة، وأصبحت تملك استراتيجية الردع. لقد أدارت الموقف بانضباط شديد، وخاصة تلك الرسائل التحذيرية التي أرسلتها للقيادة الصهيونية؛ تحذرهم فيها من أن استمرار جيشها في قصف أهداف مدنية فلسطينية سيؤدي إلى اتساع الرد الفلسطيني، وأصدرت المقاومة بلاغات للصهاينة بالتزام الملاجئ، وجاءت رسالة التحذير الأخطر، عندما استهدفت المقاومة حافلة نقل جنود في الجيش بقذيفة موجهة بعد أن أفرغت الحافلة حمولتها من الجنود؛ تجنباً لسقوط قتلى كي لا توسع نطاق المواجهة العسكرية المحدودة وتحويلها إلى مواجهة مفتوحة وحرب شاملة، والتي سبق وقلنا لا يريدها الطرفان. ولكن المتحمسين، أصحاب النوايا الطيبة، الذين يفكرون بعواطفهم بدافع العداء الفطري للكيان الصهيوني الغاصب لأرض فلسطين، ومعهم أيضا بعض المزايدين على المقاومة الذين انتقدوها بشدة ولاموها لأنها لم تقصف الحافلة وفيها الأربعين جندياً وقتلتهم عن بكرة أبيهم، بل تباكى البعض على ثمن صاروخ "كورنيت" الذي خسرته المقاومة بلا مردود على الأرض! وأصحاب هذا الاتجاه لديهم قصر نظر شديد، فهم لم يفهموا بعد استراتيجية الردع وماذا تعني لدى العدو، وما الذي تحققه من انتصارات معنوية أقوى من الانتصارات العينية وخاصة في تلك المرحلة؟! أنت لست في حرب فاصلة أو حاسمة سوف تحسم الصراع بل أنت في جولة من جولاتها، شئت أو أبيت، ستوقف بهدنة، أو لنقل تثبيت الهدنة بين الطرفين المتحاربين، وكلِ يريد أن يُحسن شروطه، بل ويفرض شروطه على الآخر. وهذا ما حصلت عليه حماس، فالذي سارع لطلب الهدنة كان الجانب الصهيوني، وما كان له أن يطلب الهدنة إلا لتيقنه بأن ميزان القوى ليس في صالحه، وأن المقاومة تملك قوة الردع، وأنه بدأ يفقد هذه القوة التي طالما ما تغنى بها. يكفى تصوير وزير الأمن الصهيوني من عدسة قناص، فهي تحمل رسالة شديدة الوضوح لا لبس فيها، مفادها "إننا في استطاعتنا الوصول إليكم أينما كنتم إذا أردنا ذلك أو في حال قررتم اغتيال قيادة كبيرة". لقد نجحت حماس في فرض كلمتها وبدا العدو الصهيوني في حالة إرباك وتخبط أمام ما وصلت إليه المقاومة من قوة وتحد. متى يفهم العرب أن عدوهم في أضعف حالاته منذ ولادته، وأنه يسير بخطة سريعة لنهايته المحتومة بفضل الغلو في العلو؟!.. 

لقد طلب العدو الصهيوني الهدنة حينما أحس بخسائره الجسيمة وتصدع جبهته الداخلية التي بدا عليها الصهاينة الذين ارتاعوا خوفاً ورعباً، واختبأوا في الملاجئ خلال الحرب وخرجوا في مظاهرات لأول مرة منذ حرب 73 منددين بالحكومة، والذي استقال على أثرها وزير الدفاع الصهيوني "ليبرمان"، بينما خرجت الجماهير العريضة في غزة عن بكرة أبيها حتى الذين تضررت أبنيتهم من القصف واستشهد أبناؤهم، خرجوا يهللون ويكبرون فرحين بالنصر المبين، وهذا هو الفارق بين أبناء الأرض الأصليين وأبناء السفاح الذين جاؤوا من شتى بقاع الأرض ليغتصبوا أرض غيرهم..

لقد أراد العدو الصهيوني أن يثبت تفوقه وقدرته على اختراق حماس، فيما أثبت رد فعل الحركة أنها تتمتع بقدر كبير من القوة والثبات والتنظيم في مواجهة احتمالات أي تصعيد قادم، وأرسلت رسالة للمعنيين، وهم بالمناسبة كثر من العرب والعجم، مضمونها "أنها لا تشعر بضغط يدفعها للهرولة إلى عقد اتفاق تهدئة كما كان مأمولاً"..

لقد فوجئ العدو الصهيوني من رد فعل المقاومة، وكان بمثابة زلزال هز كيانه، فلقد اعترف رئيس وزراء الأسبق ووزير الدفاع "أيهود باراك" بأن حماس هي التي فرضت شروطها، بل إن إسرائيل باتت رهينة لقرارات حماس؛ ليس بسبب كم الصواريخ المفاجئ فحسب، ولكن بسبب "الكورنيت" الذي كسر قواعد اللعبة وحطم الردع الإسرائيلي"، وأيده في هذا "إيهود إيعاري" الخبير الصهيوني في الشؤون الفلسطينية، معتبراً أن دعوة "حسام بدران"، عضو المكتب السياسي لحركة حماس، "نتنياهو" لعزل "ليبرمان" إن أراد إنهاء المواجهات؛ هي دعوة عكست حجم الثقة الكبيرة للمقاومة في هذه المواجهة".

غزة هي المدينة الوحيدة في المنطقة العربية التي تواجه العدو الصهيوني بكل قوة وكبرياء، وتثير الرعب في كيانه وتذله، رغم حصارها والمحاولات البائسة لتجويع شعبها، والتآمر عليها من صهاينة العرب قبل الصهاينة الإسرائيليين، إلا أن غزة العزة الأبية باحتضان شعبها للمقاومة، وحماية المقاومة لشعبها عصية على التركيع والإذلال، بل أنها هي التي أركعتهم وأذلتهم بصمودها الأسطوري طيلة هذه السنوات الطويلة، وكشفت عورات الحكام العرب الصهاينة الذين ترعبهم صواريخها التي تطلق على العدو الصهيوني الذي يحتمون به، ويهرولون إليه خانعين مذلولين للتطبيع معه..

كما أكدت هذه الحرب الخاطفة أن القضية الفلسطينية هي القضية الجوهرية للمواطن العربي، والصراع العربي الصهيوني لا يزال هو من أولوياته ومحور اهتمامه، رغم كل محاولاتهم البائسة لطمسها. إن تعاطف الشعوب العربية جميعها مع غزة ودعاءهم بالنصر للمقاومة وفرحتهم العارمة بالنصر، وإن كان هذا لم يتعد منشورات على صفحات التواصل الاجتماعي بعدما منعت أنظمة دولهم القمعية المظاهرات التي كانت تحدث من ذي قبل، إلا أن تلك المشاركة الوجدانية كان لها أعظم الأثر وذات مغزى كبير يعطي رسالة هامة لمن يهمه الأمر؛ مفادها أن فلسطين ساكنة في قلب كل عربي، وأنها تجري في عروقه كمجرى الدم.

إنها حالة عشق لا تتكرر ولا تنتهي، وإن كل محاولاتهم السابقة على مر السنين لكي الوعي العربي تجاه فلسطين، وتحويل البوصلة بجعل حماس هي العدو والكيان الصهيوني هو الصديق؛ قد باءت بالفشل الذريع، بل لقد جاءت بنتيجة عكسية تماماً لما كانوا يسعون إليه وأغدقوا مليارات الدولارات لتحقيقه. فقد عادت العداوة الشعبية إلى التأجج من جديد كما كانت عليه في الستينيات، والتي وضحت جلياً بعد حرب حزيران/ يونيو 1967.

إن غزة تدافع عن كرامة أمة بأكملها، أمة كانت خير أمة أخرجت للناس، وتدفع ضريبة ذلك من دم أبنائها.

وليس هناك أجمل من كلام الشاعر الراحل "محمود درويش" عن غزة لأختم به:

"ليست لغزة خيول ولا طائرات ولا عصى سحرية ولا مكاتب في العواصم، إن غزة تحرر نفسها من صفاتنا ولغتنا ومن غزاتها في وقت واحد، وحين نلتقي بها ذات حلم ربما لن تعرفنا؛ لأن غزة من مواليد النار ونحن من مواليد الانتظار والبكاء على الديار"..