أفكَار

عن تجربة جماعة الإخوان في الأردن بين الحكم والمعارضة

قال بأن مستقبل جماعة الإخوان في الأردن وباقي الدول العربية مرهون على قدرتها بفصل الدعوي عن السياسي (عربي21)
لم يأخذ موضوع تحالفات الإسلاميين السياسية حظّه من البحث والدراسة، وذلك لأسباب عديدة منها طول أمد العزلة السياسية التي عاشها الإسلاميون بسبب تحالفات النظم الحاكمة مع بعض القوى السياسية، واستثناء الإسلاميين من هذه التحالفات، بناء على قواسم أيدولوجية مشتركة بين الأنظمة ونلك التيارات.

لكن، مع ربيع الشعوب العربية، ومع تصدر الحركات الإسلامية للعمليات الانتخابية في أكثر من قطر عربي، نسج الإسلاميون تحالفات مختلفة مع عدد من القوى السياسية داخل مربع الحكم، وترتب عن هذه التحالفات صياغة واقع سياسي موضوعي مختلف، ما جعل هذا الموضوع يستدعي تأطيرا نظريا على قاعدة رصد تحليلي لواقع هذه التحالفات: دواعيها وأسسها وصيغها وتوافقاتها وتوتراتها وصيغ تدبير الخلاف داخلها، وأدوارها ووظائفها، وتجاربها وحصيلتها بما في ذلك نجاحاتها وإخفاقاتها.

يشارك في هذا الملف الأول من نوعه في وسائل الإعلام العربية نخبة من السياسيين والمفكرين والإعلاميين العرب، بتقارير وآراء تقييمية لنهج الحركات الإسلامية على المستوى السياسي، ولأدائها في الحكم كما في المعارضة.

اليوم يقدم مدير مركز القدس للدراسات السياسية عريب الرنتاوي، قراءة خاصة بـ "عربي21"، في التجربة السياسية لإسلاميي الأردن، وأهم المحطات المفصلية فيها. 

عن تجربة الجماعة في الأردن بين الحكم والمعارضة

تعد جماعة الإخوان المسلمين، التنظيم الأبرز حضوراً من بين مختلف تيارات "الإسلام السياسي" وجماعاته في الأردن، فجذورها ضربت عميقاً في التربة الإجتماعية الأردنية، وهي الأكثر تنظيماً وجماهيرية من بين مختلف الجماعات، وقد خبرت مراحل مد وجزر، تحالف وخصام مع النظام السياسي الأردني، وبقية مكونات الطيف الحزبي في البلاد.

موجة "السلفنة"

إلى جانب الجماعة، شهد الأردن ولادة "حزب التحرير" في مطلع خمسينات القرن الفائت، وظل محظوراً منذ ذلك التاريخ، باستثناء فترة قصيرة في أواسط خمسينات القرن الفائت... ومع دخول المنطقة، حقبة المدّ السلفي بمدارسه المختلفة، بما فيها المدرسة الوهابية الأكثر تشدداً، في المنقلب الثاني من سبعينات القرن الفائت، فقد تعرض الأردن بدوره لموجة عالية "من السلفنة" عبرت عن نفسها بإنشاء مئات المساجد والجمعيات الدينية ووجود ألوف الوعاظ والدعاة المحسوبين على هذه المدرسة، ما أدى إلى إعادة انتاج الوعي الديني الجمعي، مصبوغاً بقراءات هذه المدرسة على اختلاف "فروعها".

وإذا كانت الحركة السلفية في الأردن، قد أخفقت في خوض غمار السياسة على نحو منهجي ومنظم، وانصرفت إلى تركيز نشاطها على "الوعظ والإرشاد"، ودعم نظرائها في "ساحات الجهاد العالمي"، وأنتجت من بينها صفوفها "تياراً جهادياً أردنيا" نشط بالأساس في سوريا والعراق، وقبلها في أفغانستان والبلقان، فإن "حزب التحرير" المحظور، لم ينجح بدوره في تشكيل قطب سياسي في البلاد، وظل يعمل تحت الأرض... ليشهد الأردن في العقود الثلاثة الأخيرة ولادة حركات إسلامية دعوية، مثل "الدعوة والتبليغ" و"الأحباش" وحركات إسلامية نسوية مثل "الطباعيات" و"أخوات فاديا" وغير ذلك من الأسماء والمسميات التي تكاثرت في الآونة الأخيرة.

الجماعة والحكم... من التحالف إلى الصراع

تزامن تأسيس جماعة الإخوان المسلمين مع استقلال الأردن عن الإنتداب البريطاني، وانتقال البلاد من نظام الإمارة إلى عصر الملكية، وقد مرت علاقة الجماعة بالحكم طوال العقود السبعة الماضية، بثلاث مراحل: التأسيس، الازدهار، والتأزم .. 

مرحلة التأسيس، وتمتد بامتداد العشرية الأولى من عمر الجماعة، حينها بدت رغبة الجماعة الأم في مصر شديدة للإنتشار وبناء فروع لها في دول عربية وإسلامية، تلك الرغبة التي قابلتها "مصلحة" مماثلة للنظام في الإعتماد على حركة إسلامية، تعزز "شرعيته الدينية" التي استند إليها في حينه (وحتى اليوم)، فضلاً عن إمكانية استخدام نفوذ الجماعة الواسع، في لعبة "التنافس" بين الملكيات العربية السائدة آنذاك.

مرحلة الازدهار، وهي المرحلة التي ستمتد لأكثر من ثلاثة عقود، هي تقريباً معظم سنيّ الحرب الباردة بين معسكرين، شيوعي/قومي/ يساري بقيادة الاتحاد السوفياتي من جهة وغربي ـ عربي (وصف حيناً بالرجعي وأحياناً بالمعتدل) بزعامة الولايات المتحدة من جهة ثانية... كما أن هذه المرحلة، ستشهد ولادة منظمة التحرير الفلسطينية واحتدام الصراع على "التمثيل الفلسطيني"، حيث وقفت الجماعة في مختلف هذه الملفات، ولأسباب لا مجال لشرحها، إلى جانب الحكم في مواجهة بقية تيارات المعارضة الأردنية... 

لقد كانت مرحلة الازدهار في عمر الجماعة، هي مرحلة "التمكين الاقتصادي والاجتماعي" كذلك، وترتب على دخولها في العديد من الحكومات المتعاقبة، وتوليها وزارة التربية والتعليم ورئاسة كليات وجامعات ومدارس كبرى، إلى خلق أجيال متعاقبة، متأثرة بفكر الجماعة ومنهجها.

المرحلة الثالثة، وهي التي بدأت مع انتهاء الحرب الباردة، ودخول الصراع العربي ـ الإسرائيلي في مرحلة التسويات وعملية السلام، ونشوء حركة "حماس" في فلسطين، منبثقة عن الجماعة الأردنية (الفلسطينية كذلك)، وهناك يمكن القول، أن مرحلة "الافتراق الاستراتيجي" بين الحكم والجماعة قد بدأت، فمنذ ذلك التاريخ، لا تكاد تسجل نقطة التقاء "استراتيجية" واحدة بينهما.

رفضوا المفاوضات مع إسرائيل 

وسيشكل دخول الأردن في مفاوضات مع إسرائيل وتوقيعه معاهدة سلام معها في العام 1994، محطة نوعية حاسمة على طريق الافتراق بين الجانبين، سيتطور لاحقاً في عهد الملك عبد الله الثاني لتدخل العلاقة بين الحكم والجماعة، في سلسلة متصلة من الأزمات المتلاحقة، ستتعمق خلالها الخلافات ويتفشى انعدام الثقة المتبادل، سيما مع فوز "حماس" في الإنتخابات الفلسطينية عام 2006، وبالأخص بعد اندلاع ثورات ما بات يعرف بـ "الربيع العربي" والتي حملت حركات إسلامية "شقيقة" وشبيهة إلى سدة الحكم في عدة دول عربية، وأنعشت رهانات الجماعة الأردنية على إمكانية أن يتخذ الأردن مساراً مماثلاً.

لقد أشعلت مواقف للجماعة بعد فوز "حماس" وفي سياق ثورات الربيع العربي، أضواء حمراء كاشفة في أروقة صنع القرار في الدولة الأردنية... فالحركة رأت أنها مؤهلة لفوز شبيه بما حصل في الإنتخابات الفلسطينية عام 2006، وربما كان هذا الموقف هو السبب وراء تنظيم "أسوأ" انتخابات برلمانية في تاريخ الأردن عام 2007، حيث كان الهدف الظاهر من وراء التدخلات الحكومية فيها، منع الإخوان من الحصول على حصة وازنة من مقاعد المجلس النيابي، وكانت النتيجة خروجهم بستة مقاعد فقط، من أصل 110 مقعداً، تزامناً مع "مصادرة" جميعة المركز الإسلامي، الذراع الاقتصادي ـ الاجتماعي ـ التربوي العملاق للجماعة.

ومع وصول الإخوان المسلمين و"شقيقاتها" للحكم في عدد من دول الربيع العربي، استشعر الحكم بأن في الجماعة من بدأ يميل لمنطق "المغالبة" وليس و"المشاركة" في العملية السياسية الأردنية، فانتهج في المنقلب الثاني من 2013، بعد سقوط نظام الرئيس محمد مرسي في مصر، مقاربة قاسية حيالها، يمكن القول أنها غير مسبوقة، فانطلق الحكم في حملة "شيطنة" واسعة النطاق.

أزمات داخل الإخوان

وخلال سنوات التأزم، ستشهد الجماعة سلسلة من الأزمات الداخلية غير المسبوقة، بدأت في النصف الثاني من تسعينيات القرن الفائت، من خلال ظاهرة "النزف" التي أسفرت عن خروج قيادات تاريخية نافذة من صفوف الجماعة، والتحاق بعضها بمؤسسة الحكم، تبعها أول انشقاق عن الجماعة، قاد إلى تشكيل حزب الوسط الإسلامي في العام 2001، ثم ستتتالى الانشقاقات بعد ذلك، لينبثق من رحم الجماعة الأم حزبان وجمعية خلال السنوات الثلاث الأخيرة فقط، حزب المؤتمر الوطني ـ زمزم، وحزب الشراكة والإنقاذ، وجمعية جماعة الإخوان المسلمين، وسيقف على رأس الجماعات الجديدة، اثنان من المراقبين العامين الستة الذين تعاقبوا على قيادة الجماعة منذ تأسيسها، وعدد من قياداتها التاريخية.

على أن الجدل داخل الجماعة لم ينقطع أو يتوقف في إثر هذه الانشقاقات والانسحابات، فما زالت الجماعة الأم، تشهد جملة من الصراعات، أهمها "صراع الهوية" داخلها، والذي أفضى لخروج عدد كبير من قياداتها ذوي الأصول "الشرق أردنية"، بعد سجال محتدم حول أولويات الجماعة وبرنامجها وعلاقاتها بحركة "حماس"، وعلاقاتها بنظام الحكم.. كما شهدت الجماعة صراعاً إيديولوجياً بين تيارين أصولي وبراغماتي، حول الوجهة التي يتعين على الجماعة أن تسلكها سياسياً وفكرياً في ضوء تجربة التأزم في علاقة الجماعة بالحكم من جهة، وفي ضوء الدروس المستفادة من تجارب حكم الإسلاميين في المنطقة، ما فشل منها وما نجح من جهة ثانية، وهو جدل سيمتد ويتشعب إلى عناوين مختلفة، كالعلاقة بين "الوطني والأممي" و"السياسي والدعوي" والموقف من مفاهيم "الدولة المدنية" و"مواطنة النساء والأقليات" وعلاقة الدين بالدولة وغيرها.

ولقد تكشفت تجربة الإنشقاقات والانسحابات في السنوات العشرين الفائتة، عن وجود أزمة تنظيمية داخل الجماعة، ترتب عليها إخفاق ذريع في إدارة الاختلاف والتنوع داخل صفوفها، وكشفت الاتهامات المتبادلة بين مختلف تياراتها، عن تورط الجماعة، في صراعات ذات طبيعة شللية، ومعارك على القيادة والنفوذ، استخدمت فيها أدوات ووسائل غير مشروعة، أضعفت صدقية الجماعة وقللت من هيبتها.

وإذ شاركت الجماعة التي ستُحظر في العام 2016 بعد سبعة عقود من التأسيس و"المعاملة التفضيلية" من قبل الحكم، في الإنتخابات النيابية للبرلمان الثامن عشر من خلال ذراعها السياسي، حزب جبهة العمل الإسلامي، فإنها ستنجح في الحصول على خمسة عشر مقعداً من أصل مائة وثلاثين مقعد، لتكون بذلك الحزب الوحيد الذي يصل إلى قبة البرلمان، تحت راياته الحزبية وبشعاراته وبرامجه، ولتثبت أنها أكبر أحزاب المعارضة، بل وأكبر الأحزاب السياسية الأردنية، ولتُعَمّد "شرعيتها الشعبية" بشرعية برلمانية" هي أحوج ما تكون لها، في ضوء عملية الإستهداف المنهجية المنظمة التي اعتمدتها مؤسسات الدولة ضدها.

سيناريوهات المستقبل

وبنظرة إلى المستقبل، يمكن الحديث عن ثلاثة سيناريوهات يمكن أن تنتظم العلاقة بين الحكم والجماعة: الأول؛ سيناريو "التساكن" الأكثر ترجيحاً، والذي يقترح استمرار العلاقة على صورتها الراهنة، بين مد وجزر، صعود وهبوط، دون العودة لمرحلة "التحالف" أو الوصول إلى "كسر العظم"... الثاني؛ سيناريو "التعاون"، الذي يفترض نشوء حاجة لاستئناف شكل من أشكال التعاون بين الجانبين، كأن تشتد حدة المواجهة بين والدولة الحركات الإسلامية الأكثر تطرفاً، أو تحدث تطورات غير متوقعة في الضفة الغربية... والثالث؛ سيناريو "الصدام"، ويفترض وصول العلاقة إلى حد يصعب معه الإستمرار في احتواء الخلاف وإدارة التباين في المواقف والسياسات بين الجانبين، وهو سيناريو غير مرجح في ظل الخلفية التاريخية للعلاقة بين الجانبين، وانتهاج الحكومة مقاربة وسطاً بين مقاربتين معتمدتين في العالم العربي: الإدماج كما في تونس والمغرب، أو الإقصاء كما في مصر والإمارات والسعودية.

سياسة الاحتواء و"الاشتباك الإيجابي"

على أن المتأمل في المشهد الأردني، يخلص ربما إلى سيناريو رابع، مستقبلي، يمكن أن يشكل نواة برنامج عمل وطني، تنخرط لإنجاز أهدافه ومراميه، قوى الإصلاح والمثقفون ومؤسسات المجتمع المدني، لتجاوز الأزمة العامة التي تواجهها البلاد، وليس الجماعة وحدها، ويفترض هذا السيناريو، إدراك الحكم لأهمية إطلاق عملية إصلاح سياسي ذات مغزى، وحفز مسارات التحول الديمقراطي التي تعاني المراوحة والركود، بما يفضي إلى استعادة ثقة المواطنين خصوصاً الشباب، بالعملية السياسية وسد "فجوة الثقة" بالمؤسسات المنبثقة عنها.

ويستوجب هذا السيناريو، العمل بسياسة الاحتواء و"الاشتباك الإيجابي" مع الجماعة، بدل اللجوء إلى سياسات وممارسات قصيرة النظر، من نوع اللعب بورقة "التيارات السلفية" لمناكفة الإخوان وإضعافهم، أو إذكاء الهويات الفرعية لخلق "معادل موضوعي" للجماعة النافذة... كما يفترض هذا السيناريو، قيام مختلف الأطياف السياسية والحزبية، بتجاوز أزمة الثقة القائمة بينهما، والتي تفاقمت على خلفية "الأزمة السورية" وانقسام المعارضة الأردنية بين مؤيد للنظام في دمشق، ومعارض له، مؤيد للمعارضة السورية.

ويتعين على كافة أطرف العملية السياسية، بموجب هذا السيناريو، الإنخراط في حوار مجتمعي شامل، من أجل بناء توافقات وطنية عريضة حول مرحلة الانتقال إلى الديمقراطية، توطئة لصياغة "عقد اجتماعي" جديد، وإرساء قواعد متفق عليها للعملية السياسية، وبناء إجماع وطني حول منظومة الحقوق والواجبات المستندة إلى مفاهيم "سيادة القانون" "المواطنة الفاعلة والمتساوية" و"الدولة المدنية".

دروس الربيع المؤلمة

وفي المقابل، فإنه يتعين على الجماعة، أن تستلهم دروس "الربيع العربي" المؤلمة، وتجارب حكم الإسلاميين في أكثر من دولة من دول الإقليم، وإدراك أن مستقبل هذه الجماعات، رهن بقدرتها على فصل السياسي عن الدعوي، وانخراطها النشط، في تأصيل قيم الحرية والتعددية واحترام الآخر وقبوله (كما هو)، فضلاً عن التقيد بقواعد العملية الديمقراطية والخضوع لنتائجها.

ويُملي هذا السيناريو على التيارات الفكرية والسياسية الأخرى، أن تدرك أن الأزمة تعصف بها أيضاً، وأنها تتحمل المسؤولية كغيرها، في قيادة مشروع إصلاحي في أوساطها وعلى المستوى الوطني العام، وأن سياسة "الإشتباك الإيجابي" مع الحكم والجماعة، هي البديل المنطقي، لسياسات التخندق والتمحور مع هذا الفريق ضد الفريق الآخر، لأن الاستمرار في اجترار "أمجاد الماضي" لن يجدي نفعاً في ظل استمرار "ثنائية" الحكم والجماعة، وغياب "البديل الثالث" القادر على حجز مقعد له في قاطرة المستقبل.