لا شكّ أن ارتقاء 60 شهيدا فلسطينيا في يوم العودة، وهم يواجهون
الرصاص المتفجّر للعدوّ بصدور عارية، هو أمرٌ مؤلم للفلسطينيين وللشعوب العربية
والإسلامية ولأحرار العالم جميعا.
لكن
بالمقابل، نأمل أن يكون الفلسطينيون بعد هذه المذبحة قد توصّلوا إلى النتيجة نفسها
التي انتهى إليها الجزائريون بعد مجازر 8 ماي 1945، برغم محدودية خسائرهم في مذبحة
يوم العودة مقارنة بخسائر الجزائريين منذ 73 سنة؛ فبعد نضال سياسي طويل للحركة
الوطنية الجزائرية، استجْدَت خلاله الاستعمارَ الفرنسي منحَ "الأهالي"
الجزائريين الاستقلال بلا إراقة الدماء، أو حتى الحدّ الأدنى من حقوقهم، كانت
النتيجة تلك المجازر الرهيبة التي ذهب ضحيتها 45 ألف جزائري في بضعة أيام، فتوصّل
بعدها الجزائريون إلى قناعة راسخة بأنه لا يفُلُّ الحديدَ إلا الحديدُ، فكانت ثورة
نوفمبر 1954 التي قدّموا فيها تضحيات جسيمة انتهت بانتزاع استقلالهم، وطردِ نحو نصف
مليون جندي فرنسي ومعهم أكثر من مليون معمِّر فرنسي وأوربي لم يكونوا يتصوّرون
لحظة واحدة أنه سيأتي يومٌ يُرغَمون فيه على ترك "الفردوس الجزائري".
اليوم،
نأمل أن يكون الفلسطينيون كلهم، ولاسيما في الضفة الغربية، قد توصَّلوا إلى
النتيجة نفسها؛ فأمام عدوّ استيطاني إجرامي شرس مدعوم أمريكيا وغربيا، لا يتردد
لحظة في إطلاق الرصاص المتفجِّر على المتظاهرين سلميا، ومنهم نساءٌ وأطفال
ومقعَدون على كراسي متحرّكة… لا يمكن الحديث عن إمكانية نجاح مسار سياسي قائم على
استجداء ذليل للعدوّ للقبول بـ"حل الدولتين"، ولا التعويلُ على مجتمع
دولي منافق منحاز إلى الاحتلال يدين الضحية ويلتمس الأعذار للجلاد على جرائمه..
الصورة واضحة اليوم وهي أن الاحتلال يرفض قيام دولة فلسطينية على 22 بالمائة فقط
من أراضي فلسطين التاريخية، ويريدها كلها له، باستثناء غزة، ويريد القدس عاصمة له
وحده، ويشترط استسلام الفلسطينيين له لمنحهم "دويلة" هزيلة منزوعة
السلاح في غزة وجزء من سيناء ضمن "صفقة القرن" التي تسعى واشنطن إلى
فرضها بالقوة، كما أن هذا العدو لا يطيق حتى المظاهرات السلمية ويقمعها بوحشية
بالغة أمام أنظار العالم كله، فماذا بقي للسلطة الفلسطينية حتى تتشبّث أكثر بأوسلو
وبالمسار السياسي لانتزاع "دولة فلسطينية" يصرّ الاحتلالُ وأمريكا على
رفضها؟
لم
تكن الأمور في فلسطين على قدر كبير من الوضوح كما هي اليوم، وكما سقطت في الماء
جميعُ رهانات الحركة الوطنية الجزائرية على انتزاع الحقوق سلميا من الاحتلال
الفرنسي، بعد عقود من "النضال السلمي"، واقتنعتْ أخيرا بحتمية تفجير
ثورة مسلحة لتحرير الجزائر بالقوة، وتمكنت من ذلك بعد قرن وثُلث قرن من الاحتلال
وسبع سنوات من الثورة، فإننا لا نشكّ قيد أنملة أنّ هذا هو الطريق الصحيح
للفلسطينيين، شرط أن تؤمن به الضفة الغربية وفلسطينيو 1948 أيضا وليس غزة وحدها؛
فحينما قامت الكثير من الثورات الشعبية المتفرّقة في أجزاء شتى من الجزائر ضد
الاستعمار في القرن الـ19، تمكنت فرنسا من إخمادها كلها، الواحدة تلو الأخرى، ولكن
عندما قامت ثورة وطنية شاملة في كل ربوع الجزائر حققت انتصارا تاريخيا مدوِّيا بعد
تضحيات جسيمة، ونرجو أن يكون ذلك درسا كافيا يختصر الطريق على الفلسطينيين.
الشروق الجزائرية