يلوم الكثيرُ من المحللين والمتتبّعين العرب هذه الأيام الغربَ على استنفاره وتجنيده إمكاناتٍ عسكرية وديبلوماسية وإعلامية وإنسانية ضخمة لدعم أوكرانيا، وفرضِه سلسلة عقوبات طويلة على روسيا، لم تكتفِ بالاقتصاد وعالم المال فحسب، بل امتدّت حتى إلى الرياضة والقِطط الروسية تضامنًا مع أوكرانيا، مقابل غضِّ الطرف عن معاناة الفلسطينيين من جرائم الاحتلال الصهيوني طيلة 74 سنة كاملة من دون أن يرفّ لهذا الغرب جفن!
لا نختلف مع هؤلاء المحلّلين في عنصرية الغرب وعجرفته واستعلائه علينا وازدواجية معاييره، وهي أمورٌ معروفة عنه، ولكن بالمقابل: ماذا فعلنا نحن لنصرة القضية الفلسطينية التي تتغنى أنظمتُنا المُنافِقة بأنّها “قضيَّتُها المركزية الأولى”؟ ألسنا نحن الأولى بها من الغرب؟
في حين تتّسع دائرةُ الدعم الغربي لأوكرانيا وسلسلة عقوباته ضدّ روسيا، يتفّنن العربُ والمسلمون في خذلان القضية الفلسطينية والانبطاح للاحتلال وتقديم عرابين الولاء له؛ فها هو الرئيس التركي رجب أردوغان الذي ملأ الدنيا ضجيجا واحتجاجا في السنوات الأخيرة على جرائم الصهاينة في فلسطين، واحتجّ بشدّة على “اتفاقات ابراهام”، ينكص على عقبيه ويستقبل الرئيسَ الصهيوني إسحاق هرتزوغ استقبال الأبطال في اسطنبول في 9 مارس الجاري، ويفرش له السجاد الأحمر، وها هي دولُ الخليج تكثّف “تعاونها” الأمني والعسكري مع الاحتلال استعدادا لإقامة “حلف ناتو خليجي” يقوده الكيانُ ضد إيران، ثم تتبجّح إحدى هذه الدول بفتح أوكار للموساد على أراضيها!
منذ يومين فقط، أدانت دولٌ خليجية وعربية عديدة القصفَ الإيراني لوكرٍ للموساد بأربيل العراقية، بـ12 صاروخا، لكنّ هذه الدول بلعت ألسنتها وخرست تماما حينما اغتال الاحتلالُ ثلاثة فلسطينيين في الضفة الغربية والقدس!
في كلّ يوم يقوم الكيانُ الصهيوني العنصري بقتل الفلسطينيين، وهدمِ بيوتهم، واعتقال شبابهم، والتنكيل بأسراهم، وقضم ما تبقّى من أراضيهم في الضفة والقدس، وإنكار أبسط حقوقهم السياسية، وإطلاق قطعان مستوطنيه لقطع أشجارهم، والاعتداء عليهم… فلا يقابل العربُ ذلك سوى بالمزيد من الهرولة وتوقيع اتفاقات التعاون العسكري والاستخباراتي مع الاحتلال!
غزوُ أوكرانيا المؤقّت وحّد الغربَ كلّه وراءها، أمّا احتلالُ فلسطين وارتكابُ أبشع الجرائم بحقّ شعبها منذ 74 سنة كاملة، فلم يكن عاملا كافيا لتوحيد العرب والمسلمين لنصرتها؛ 56 دولة إسلامية كاملة، ليس بينها دولةٌ غير إيران تجرّأت على تحدّي الولايات المتحدة ودعمِ المقاومة الفلسطينية بالسِّلاح.
صحيحٌ أنّ الدعم الإيراني للمقاومة في القطاع بالصواريخ والمسيّرات وبما تيسّر من السلاح، قد مكّنها من الصمود في وجه جيش الاحتلال في حروب 2008 و2012 و2014 و2021، لكنّ ما الذي يمنع أن يتوسّع ذلك إلى بقية الدول العربية والإسلامية؟ ما الذي يمنع هذه الدولَ من تزويدها بمنظومات دفاع جوي تُنهي استباحة الاحتلال لأجواء غزة؟ وما الذي يمنع تركيا مثلا من تزويد المقاومة بطائرات “بير قدار” المسيَّرة التي حسمت حروب ليبيا وناغورني كاراباغ؟ لماذا تزوِّد بها أوكرانيا لضرب القواتِ الروسية في حين أن المقاومة الفلسطينية أولى بها؟!
ما قلناه عن مسيَّرات تركيا ينطبق على مئات السوريين، الموالين للنظام والمعارضين، الذين بدأوا يتوافدون على أوكرانيا وروسيا للقتال إلى جانب هذا الطرف أو ذاك في الحرب الدائرة بينهما؛ أيْ استئناف حربهم هناك بعد أن توقّف القتالُ في إدلب منذ سنوات، مع أنّ فلسطين على مرمى حجرٍ منهم وهي الأولى بتضحياتهم وأرواحهم، في وقتٍ يعمل الصهاينة خِفية على الاستفادة من هذه الحرب إلى أقصى درجة من خلال السعي إلى إقناع آلاف اليهود الأوكرانيين بالهجرة إلى “أرض الميعاد”!
بعد كلّ هذا النّفاق والهوان والنذالة ومسلسل الخيانات.. هل يجوز لنا أن نلوم الغربَ على ازدواجية معاييره؟!
(الشرق الجزائرية)