ينتقل جزء من
العالم العربي رويدا رويدا من تبعيته للقطب الأمريكي وحده إلى تبعية أجزاء منه.. القطب الجديد هو الكيان الصهيوني، بمعنى أن التواصل المقبل مع أمريكا سوف يمر عبر تل أبيب لا محالة.
انظر إلى ترتيبات انتقال الحكم في السعودية منذ وفاة الملك عبد الله وتسلم أخيه سلمان مقاليد الحكم، ثم تواريه عن الأنظار ووصول محمد بن سلمان للحكم عبر بوابة تل أبيب، تماما كما فعلت تل أبيب مع القاهرة حين جاءت بالسيسي للسلطة، مقابل تعهدات بدأت تتكشف ملامحها يوما بعد يوم.
ستقود تل أبيب المنطقة ليست بقوة منها وحدها، ولكن بضعف شديد في البنية السياسية العربية التي عجزت أن تأتي بحكام من الشعب بطريقة ديمقراطية. وستكون تل أبيب مدعومة في العقد القادم بالمال الخليجي عبر مشاريع مشتركة، من أجل فرض المزيد من الحصار على الشعوب التي وصفها بنيامين نتنياهو، رئيس وزراء الكيان الصهيوني، بأنها الوحيدة التي ترفض وجود الكيان والتصالح معه، رغم أن القيادات تفعل وبلا حرج.
بالطبع لن تختفي أمريكا من المنطقة ولن يضعف تأثيرها ونفوذها، ولكن سوف يقل وجودها وانخراطها المباشر في شؤون المنطقة؛ مكتفية بتدفق المال الخليجي إلى البيت الأبيض الذي بدأ في عهد ترامب. ولسوف تستمر هذه السياسة التي لا تكلف أمريكا لا جيوشا ولا عتادا لعقود، كما أنها لن تكلفها عبئا سياسيا ولا كلفة أخلاقية لدعمها المباشر للأنظمة المستبدة.
باختصار، ستصبح دولة الكيان الصهيوني هي مركز المحور الجديد التابع لأمريكا عن بعد.
هذا المحور يلغي الفكرة القديمة التي سادت لبعض الوقت، وهي تشكيل محور سني من مصر وتركيا والسعودية وبعض دويلات الخليج؛ في مواجهة المحور الشيعي الممتد من إيران إلى العراق إلى سوريا ولبنان. وهذا يعني أيضا أن
تركيا اليوم، وبعد تصريحات نقلت عن محمد بن سلمان في أثناء زيارته للقاهرة مؤخرا، التي جاء فيها أن أعداء السعودية الجدد هم تركيا العثمانية وإيران والجماعات المتطرفة، أن على تركيا أن تتعامل بجدية مع هذه التصريحات التي نفتها سفارة السعودية في أنقرة؛ رغم أن وسائل الإعلام المصرية لم تقم بنفيها، وهي التي نقلت عن ابن سلمان مباشرة.
الملاحظ أن مستشار الرئيس أردوغان، الدكتور ياسين أقطاي، قد صرح في لقاء تلفزيوني معي في برنامجي اليومي "مع زوبع"؛ أن عدم رد تركيا لا يعني عدم اهتمامها، وأن تركيا على علم ووعي ودراية بما يحاك ضدها، ولكنها تتمتع بالصبر والحكمة.
في التوقيت ذاته، وبينما تنسحب أمريكا من سوريا والمنطقة، تتمدد روسيا في الإقليم عبر غزو سوريا وعلاقاتها العسكرية مع دول المنطقة. ومؤخرا برزت تركيا على سطح الأحداث معلنة عن قوتها العسكرية، وقدرتها على الحسم في الداخل السوري في مواجهة القوات الكردية المدعومة أمريكيا وعربيا وأوروبيا، كما صرح الدكتور ياسين أقطاي في المقابلة نفسها المشار إليها، وهي مفاجأة غير سارة أن تعلم تركيا أنها تواجه التنظيمات الكردية بدعم واضح من دول مثل فرنسا وأمريكا والإمارات، ومع ذلك استطاعت تركيا حسم المعركة في أسابيع، واستطاعت الدخول مع قوات الجيش السوري الحر إلى مركز مدينة عفرين.
هذا يعني أن العلاقة بين تركيا وأمريكا، كما أوضح أكثر من مسؤول تركي، دخلت بعد مرحلة الشك إلى مرحلة الانفصال الوشيك، إن لم تدخل في مرحلة العداء قريبا، وهذا ما يدركه الأتراك جيدا، ويدركون أن جزءا من معركتهم مع قوى الانقلاب العربي لا تقتصر على مصر ولا قطر، بل قد تمتد إلى داخل تركيا. لذا قامت تركيا بإجراء هذه العملية العسكرية التي سميت بالجراحة الدقيقة، لمهارة تنفيذها وقلة الخسائر المدنية في أثناء تنفيذها، مقارنة بعمليات السعودية في اليمن وعمليات التحالف الدولي في سوريا.
وإذا كان تقديرنا أن إيران في مرمى النيران الصهيو- أمريكية والعربية الخليجية، فإن تركيا ليست بعيدة عن تلك النيران، وأنها بعد أن قررت هجر أوروبا وعدم الانصياع لطلباتها من أجل الانضمام للاتحاد الأوروبي، قد تجد نفسها في وقت من الأوقات في حلف غير معلن مع إيران، وأنها (أي تركيا)، وكما دأبت مؤخرا، ستبحث عن العمق الإسلامي، العربي وغير العربي، مع يقظتها على محاولات اختراق المخابرات في الداخل التركي.
أي إن تركيا ستسعى إلى توسيع دائرة الحلفاء من أجل محاصرة الخصوم الجدد قبل أن تكون المعركة على أرضها، كما حاولوا في الانقلاب الفاشل قبل عامين.
تدرك تركيا أن القوة العسكرية، كما القوة الاقتصادية، كلاهما لازم وضروري للبقاء في عالم شديد الوحش، وفي مواجهة مجموعات الحكم الصبيانية الصاعدة في المنطقة، التي تستظل بظل الكيان الصهيوني وتشتري النفوذ والتوغل في البيت الأبيض ببراميل النفط التي لا تكلفهم شيئا.
ولعل الفترة المقبلة، بعد رحيل وزير الخارجية المعتدل نوعا ما، تيلرسون، ومجيء الوزير الجمهوري اليميني العسكري المتطرف بومبيو، قد تطرأ فيها مستجدات تجعل الحرب وشيكة في المنطقة. ولو وقعت الحرب في أي جزء من أجزاء العالم العربي، فإن تركيا (وبلا أدنى شك) ستجد نفسها في مرمى النيران.
ورغم ذلك، فلا زلت أعتقد أن العملية العسكرية التركية الناجحة في عفرين قد نجحت في إيصال رسالة للجميع؛ بأنه ممنوع العبث مع تركيا الجديدة أيضا.