"حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوا أعمالكم قبل أن توزن عليكم".. قالها عمر بن الخطاب، وهي قاعدة لا تنطبق فقط على الأفراد بل تنطبق أيضا على الجماعات، خاصة تلك التي تنطلق من مرجعية إسلامية، وفي ذكرى مرور 90 عاما على تأسيس جماعة
الإخوان المسلمين (آذار/ مارس 1928 - مارس 2018) من المهم مراجعة وتقييم عمل الجماعة على مدار تلك العقود التسعة، وما حققته من نجاحات أو إخفاقات.
تحدثت في
مقال سابق عما قدمته الجماعة خلال تسعين عاما، انطلاقا من الأهداف التي حددتها لنفسها، سواء بناء الفرد المسلم أو الأسرة المسلمة أو المجتمع المسلم أو الحكومة الإسلامية أو الوحدة الإسلامية. وقد ظهر من ذلك التقييم أن الجماعة نجحت بالفعل في تحقيق نجاحات مهمة، منها نشر الفكر الإسلامي الوسطي، ومواجهة الغلو والتكفير، ومواجهة الفساد والاستبداد، وكذا نشر السلوك الإسلامي وتقديم خدمات اجتماعية وتعليمية وطبية وإغاثية؛ جبرت بها عجز وقصور الحكومات، وساهمت في معارك التحرير ضد المحتل، كما الحال في
مصر وفلسطين، والتبشير بالوحدة الإسلامية، والمساهمة في التمهيد لها ببعض الإجراءات العملية. ولا ننسى بطبيعة الحال أن الجماعة تمكنت من إيصال أول رئيس مدني لحكم مصر بعد 60 عاما من الحكم العسكري الذي لم تستطع أية قوة أخرى مجابهته، كما أنها ساهمت في تجنيب مصر حربا أهلية عقب انقلاب الثالث من تموز/ يوليو 2013، محافظة على سلمية مقاومتها لهذا الانقلاب، رغم الغضب الشديد لأنصارها وخاصة قطاعات الشباب.
ومع كل هذه الإنجازات يبقى السؤال: هل لم تخطئ الجماعة عبر تاريخها؟ وهل هناك ما يستوجب اعتذارها عنه؟ الإجابة الطبيعية أن الجماعة تخطئ وتصيب، شأنها شأن الأفراد الذين تتكون منهم. وقد اعترفت قيادة الجماعة تاريخيا بأخطاء، وقد اعتذرت عنها بالفعل، كما هو الحال في واقعة قتل النقراشي، رئيس وزراء مصر الأسبق، على يد أحد الإخوان، ثم تفجير مكتب النائب العام، وهو ما استنكره الإمام البنا، وأصدر بشأنه بيانا للناس؛ وصف فيه من فعل ذلك بأنهم ليسو إخوانا وليسو مسلمين.
حين تحرك تنظيم الضباط الأحرار للانقلاب على الملك فاروق، حرصوا على إطلاع الإخوان على مخططهم، وعقدوا معهم جلسات خاصة في منزل الأستاذ حلمي عبد المجيد، قبل 23 تموز/ يوليو 1952، وطلب الضباط إطلاع المرشد شخصيا على تحركاتهم، وكان وقتها في الإسكندرية، وحدثت تفاهمات بين الطرفين تنكر لها عبد الناصر لاحقا، وكان الخطأ هنا هو اعتماد الإخوان على كلام شفهي (كلمة شرف) غير موثقة، لم تصلح للاستناد إليها لاحقا. وحين عرض عبد الناصر على الإخوان المشاركة في أول حكومة معه بـ 3 وزراء (وفي رواية بوزير واحد) رفضوا، وكانت حجتهم في ذلك هو عدم الاطمئنان له بعد أن تنكر لوعوده السابقة، والتي كانت تنصب على العودة للثكنات وتسليم البلد لحكم مدني. ورغم أن البعض يمكنه المحاججة بأن تلك كانت فرصة للإخوان للمشاركة في الحكم حتى لو بوزير واحد بشكل رسمي (تقلد الشيخ أحمد الباقوري وزارة الأوقاف خروجا على قرار الجماعة، ومستقيلا منها)، ويرون أن المشاركة كانت لتبقي الجماعة في مكانة جيدة تسمح لها بالتمدد في مساحات أخرى، وتجنب الصدام مع الحكم الجديد الذي يرتبط الكثير من قادته بعلاقة ود سابقة معها، لكن الحقيقة أن قبول الإخوان لتلك المشاركة كانت ستعني قبولا بالحكم العسكري ودفنا للحكم المدني الذي يبشرون به، كما كان يلزمهم بشيء آخر، طلبه ناصر منهم، وهو اندماج الجماعة في هيئة التحرير التي أنشأها لتكون بمثابة حزبه السياسي، وهو ما رفضه الإخوان بقوة. وقد توترت علاقة الجماعة بحركة يوليو، وبلغت ذروة التوتر بحل الجماعة مطلع العام 1954 بعد مظاهرات طلابية معارضة للضباط، ثم انفجار أزمة الديمقراطية في آذار/ مارس (أي بعد شهرين من الحل)، وهي الأزمة التي انحاز فيها الإخوان لفريق اللواء محمد نجيب، ثم اتهام أحد الإخوان بمحاولة اغتيال عبد الناصر في حادث المنشية الشهير في 26 تشرين الأول/ أكتوبر عام 1954. وقد تعددت الروايات حول الحادث الذي دفع الإخوان ثمنا باهظا له، ولا تزال الجماعة تشكك في تفاصيله رسميا حتى اليوم وتصفه بالتمثيلية، وأعتقد أن الواجب إعادة تقييم هذا الموقف.
وحين انتشرت فتنة التكفير في سجون الستينات، كرد فعل على عمليات التعذيب الوحشية، تصدى قادة الإخوان، وعلى رأسهم المرشد العام حسن الهضيبي، لتلك الفتنة عبر سلسلة بحوث جمعت في كتاب "دعاة لا قضاة"، فندت كل أسانيد دعاة التكفير الذين وصل بهم الأمر لتكفير قادة الجماعة أنفسهم وعموم أبنائها. وقد ظهرت كتابات إخوانية أخرى لاحقا، في فترة في مواجهة ظاهرة التكفير، وخصوصا بعد بروز الجماعة التي وصفت أمنيا بـ"التكفير والهجرة" وقتل الشيخ حسين الذهبي، وزير الأوقاف الأسبق، في العام 1975، ثم حادث الفنية العسكرية.. الخ، والتظيمات القريبة من فكر التكفير في الثمانينيات والتسعينيات.
ظلت الجماعة متمسكة بأدبياتها التقليدية التي انتجها الإمام المؤسس حسن البنا ومفكرو وفقهاء الجماعة الآخرين؛ حتى العام 1994، حيث أجرت الجماعة نقاشا حول بعض القضايا الجدلية، مثل الموقف من ولاية المراة، والأقباط، والشورى، والتعددية الحزبية، وأصدرت الجماعة وثيقة بموقفها الجديد في هذه القضايا، وهو موقف متقدم قياسا بالمواقف السابقة من القضايا ذاتها. وقد استدركت الجماعة على مؤسسها نفسه في قبول العمل الحزبي والتعددية الحزبية، حيث كان ذلك مرفوضا وفقا لأدبيات الإمام البنا المنشورة. وفي الشورى اعتمدت الجماعة مبدأ الشورى "الملزمة" لا "المعلمة"، وبعد أن كانت المراة هي مجرد مربية لأولادها في المنزل، أو في احسن التقديرات موظفة في بعض الوظائف الآمنة مثل الطب النسائي والتدريس، أقرت الجماعة بحق المرأة في الترشح للبرلمان، وبحق تولي المناصب الوزراية ومناصب المحافظين، وحتى منصب رئيس الوزراء، دون الحق في تولي الرئاسة التي وصفت في الوثيقة بـ"الولاية العظمى"، وهو موقف بدا متقدما في حينه، لكنه لم يعد مناسبا للظروف الراهنة، ففكرة الولاية العظمى رد عليها فقهاء آخرون مثل القرضاوي، ونفوا وجودها في العصر الحالي بالشكل الذي كانت عليه في القرون السابقة، والتي دفعت الفقهاء السابقين لمنع توليتها للمرأة، كما أن الجماعة نفسها تجاوزت هذا الأمر عمليا في برنامج الحزب الذي أسسته (الحرية والعدالة) عقب ثورة يناير 2011، ومشاركتها في وضع دستور البلاد عام 2012، والذي ساوى بين المرأة والرجل في تقلد الوظائف العامة بما فيها رئاسة الدولة، علما أن البيئة الثقافية للمجتمع المصري تحول دون وصول المرأة لهذا المنصب الرفيع في الوقت الحالي، حتى إن نظام السيسي حينما حاول تشجيع النساء على التصويت في هزليته الرئاسية الحالية؛ وعد النساء بتبوؤ منصب رئيس الوزراء، ولم يستطع أن يعد بأكثر من ذلك (إعلان تلفزيوني للجنة العليا للانتخابات).. والأمر ذاته ينطبق على ولاية المسيحيين للوظائف العامة، ومن الحكمة في هذه المسائل إعلان قبول الجماعة لخيارات الشعب المصري أيا كانت؛ طالما جاءت وفق إرادة حرة.
برزت الجماعة باعتبارها القوة المدنية الرئيسة في مواجهة القوة العسكرية بعد ثورة يناير 2011، وهو ما ألقى على كاهلها مسؤولية مضاعفة للحفاظ على الثورة، والوصول بها إلى بر الأمان، رغم إدعاءات البعض بعدم مشاركة الإخوان في الثورة في أيامها الأولى أو قفزهم عليها عقب نجاحها، والحقيقة أن الثورة فاجأت الإخوان كما فاجأت غيرهم، فلم يكونوا مهيئين للتعامل مع تطوراتها السريعة والكبرى، التي لم تكن بالحسبان، ومن هنا كان الإرتباك في بعض المواقف(وليس كلها)، سواء فكرة ترك الميدان ليلة موقعة الجمل حقنا للدماء، وهي الفكرة التي رفضتها القيادات الإخوانية الميدانية، والتي استبسلت دفاعا عن الميدان حتى صارت مضرب المثل، أو ترك الميدان أثناء مواجهات محمد محمود بين شباب الثورة وقوات الشرطة، أو الثقة في المجلس العسكري الإنتقالي برئاسة المشير حسين طنطاوي، وهو ما اعتذرت عنه الجماعة رسميا بعد ذلك، أو عدم القدرة على إستيعاب شركاء الثورة، صحيح أن الكثيرين منهم كانوا يتعاملون مع الإخوان باستعلاء أو حتى إحتقار، وكانوا يرون أنفسهم أصحاب الثورة، ومن حقهم وحدهم حصد ثمارها، لكن هناك رموزا ثورية أخرى لم تكن تحمل القناعات ذاتها، وكان من الممكن إشراكها في التحالفات الانتخابية، والمواقع التنفيذية.
وللحديث بقية حول مرحلة الانقلاب والممتدة حتى الآن.