أيصح أن يعاقب اثنان من القضاة ــ حتى يتعرضا لاحتمال الفصل ــ لأنهما شاركا في وضع مشروع لمكافحة التعذيب؟ السؤال من أغرب ما يمكن أن يطرح في زماننا. لأننا نفهم أن يعاقب الذين يمارسون التعذيب. ولكننا لا نريد أن نصدق أن العقاب يمكن أن يكون من نصيب الذين يكافحونه. وعلى أسوأ الفروض وأتعسها، فإن التعذيب إذا كان قد أصبح من الخطوط الحمراء و«الثوابت الوطنية»، فلماذا لا ندع الذين يكافحونه وشأنهم، بحيث يعدون المشروعات التي تعِنّ لهم، في حين يستمر الوضع كما هو عليه، كما هو الحاصل مع المنظمات الحقوقية التي ما برحت تندد بالتعذيب ليل نهار، دون أن يؤثر ذلك على «ثوابت» الداخلية وممارساتها. أعني لماذا لا نستجيب للدعوة إلى ستر البلوى، ونصر على فضح أنفسنا على الملأ، بحيث يشمت فينا كل من هب ودب.
قبل أن أستطرد، أذكر بأن فريق الرئيس الأمريكي دونالد ترامب انتهز فرصة إطلاق سراح المصرية الأمريكية آية حجازي واستقبال الرئيس لها في واشنطن، وحوّل المسألة إلي فيلم دعائي لتحسين صورة الرئيس الأمريكي، وتقديمه بحسبانه الرجل الذي يدافع عن كرامة الأمريكيين في الداخل والخارج.
أما نحن فنتطوع بين الحين والآخر بإهداء وسائل الإعلام قصصا وأخبارا تشوه صورة البلد وتفضح نظامه. وفي الوقت ذاته نملأ الدنيا صياحا وغضبا لأن المنابر الإعلامية الأجنبية لا تذكر مصر بخير.
لقد أعلن هذا الأسبوع أن مجلس الصلاحية بوزارة العدل انعقد للنظر في أمر القاضيين الجليلين المستشار عاصم عبدالجبار نائب رئيس محكمة النقض والمستشار هشام رؤوف الرئيس بمحكمة الاستئناف، بعد اتهامهما بالاشتراك في وضع مشروع قانون لمكافحة التعذيب، ونسب إليهما أنهما «عملا مع جماعة غير شرعية يرأسها المحامي نجاد البرعي (الحقوقي المعروف)» لهذا الغرض، وكان رئيس مجلس القضاء الأعلى قد طلب من وزير العدل في شهر أبريل من عام 2015 ندب قاض للتحقيق في تعاون القاضيين مع الأستاذ البرعي لإنجاز المشروع. وهو من سبق أن وجهت إليه اتهامات بتأسيس جماعة غير مرخصة باسم المجموعة المتحدة بغرض التحريض على مقاومة السلطات العامة وممارسة نشاط حقوق الإنسان دون ترخيص. وتلقي تمويل من المركز الوطني لمحاكم الدولة، وإذاعة أخبار كاذبة وتكدير الأمن العام وإلحاق الضرر بالمصلحة العامة.
من يتابع الموضوع، خصوصا بيان المجموعة المتحدة يدرك أنه من شقين، أحدهما يتعلق بنشاط المجموعة ومواقف واتصالات الأستاذ نجاد البرعي، الذي وجهت إليه الاتهامات السابق ذكرها. الشق الثاني ينصب على تعاون القاضيين مع المكتب في إنجاز مشروع مكافحة التعذيب. والاتهامات الأولى تؤسس للشق الثاني، على اعتبار أنه من وجهة نظر الادعاء مكتب «مشبوه» اشترك القاضيان في بعض أنشطته. بما يستوجب المساءلة والعقاب.
الأصل أن نأخذ مثل تلك الادعاءات على محمل الجد، إلا أن خبرتنا لا تشجعنا على ذلك. وقائمة الاتهامات الجسيمة التي وجهت إلى آية حجازي وجمعيتها (بلادي) وبرأتها المحكمة منها جميعا، دليل حي بين أيدينا يؤيد تلفيقها ويشككنا في جديتها. وهو ما يدعونا إلى القول بأن ما هو منسوب إلى الأستاذ البرعي والقاضيين من اتهامات له أسباب أخرى غير تلك التي وردت في الادعاءات. ويدعونا بالتالي إلى تصديق ما قيل عن أن الأمر في جوهره لا يخرج عن كونه من قبيل التأديب وتصفية الحسابات، فالحقوقيون من أمثال نجاد البرعي غير مرضيٍّ عنهم وفتحهم ملف التعذيب غير مرحب به. أما القاضيان فهما من دعاة استقلال القضاء الذين يتم التخلص منهم لأنهم بدورهم غير مرضي عنهم، مثل غيرهم من «المشبوهين» الذين اشتركوا في ثورة 25 يناير. وإذا ما صح ذلك فإنه مما يبعث على الأسى، ليس فقط لأنه من قبيل القمع الذي صار يمارس بحق كثيرين في مصر، ولكن أيضا لأنه يفضحنا ويكشف عوراتنا أمام الأجانب.
(عن صحيفة الشرق القطرية)