قضايا وآراء

من يحكم تونس (3)

عادل بن عبد الله
1300x600
1300x600
الباجي قائد السبسي: الوجه والأقنعة

-الحَكَم: "الدستوري" الذي لا مستقبل له ولا شرعية

بعد سقوط الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي، عرفت تونس نوعا من الانتقال الديمقراطي "الهجين". فقد تمت إدارة الانتقال على أساس "استمرارية الدولة" لا على أساس القطيعة الجذرية مع ترسانتها المفهومية والقانونية. فعندما ننظر إلى تولي رئيس مجلس النواب فؤاد المبزع منصب الرئيس المؤقت، وبقاء الوزير الأول للمخلوع محمد الغنوشي في منصبه، فإننا لن نعدو الصواب إذا ما تساءلنا عن ماهية "فراغ" منصب رئيس الجمهورية الذي بدا وكأنه جاء بسبب "فراغ دستوري" لا بثورة على حكم "التجمعيين" وسلفهم "الدساترة". 

في هذا المناخ العام الذي لم يقطع فعليا مع المنظومة السابقة (رغم أن الصراع مازال يدار أساسا ضد المنظومة النوفمبرية، ورغم حل الحزب الحاكم في عهد بن علي بحكم قضائي على مقتضى قانون الأحزاب لا على مقتضى القانون الجنائي باعتباره تجمعا لمفسدين)، يمكننا أن نعتبر تولي الباجي قائد السبسي منصب رئيس الوزراء حدثا طبيعيا، كما يمكننا اعتباره حدثا مفصليا سيوجه إلى حد كبير طبيعة المسار الانتقالي في مرحلة أولى، ثم عودة التجمعيين عبر بوّابة "البورقيبية" إلى واجهة المشهد السياسي بعد انتخابات 2014

الشريك: الصراع الثقافوي وعودة الاصطفافات الأيديولوجية

بعد انتخابات المجلس التأسيسي وتشكل الترويكا، تجذر الانقسام السياسي في تونس على أساس ثقافوي حرف الصراع من دائرة التناقض مع المنظومة الدستورية-التجمعية إلي التناقض بين القوى الحداثية العلمانية وبين القوى الرجعية بقيادة حركة النهضة. فقد أجمعت أغلب النخب الحداثية- باختلاف مرجعياتها الإيديولوجية- على أنّ حكم الترويكا(بنواته النهضوية ذات الخلفية الإسلامية) مهددٌ لقيم العيش المشترك بين المواطنين ومؤذنٌ بذهاب"النمط المجتمعي التونسي".

وكان من نتائج هذا الأفق الجديد للفعل السياسي أن دفع بالباجي قائد السبسي إلى واجهة "المعارضة" فيما سُمٌي بالاتحاد من أجل تونس وجبهة الإنقاذ واعتصام المصير وغيرها من مظاهر المعارضة التي قامت بها "القوى الديمقراطية" بعد أن طبّعت مع ورثة التجمع(بقيادة نداء تونس) واعتبرتهم جزءا من "العائلة الديمقرطية" التي عليها مواجهة الترويكا و"مشروع أسلمة المجتمع". عندها صار الباجي قائد السبسي شريكا كامل الحقوق، وعندها عادت "العائلة الدستورية" (وهو الاسم المخاتل للتجمعيين الذين قامت عليهم الثورة) لتصبح قاطرة القوى المعارضة مستندة إلى جملة من الشعارات والمفاهيم والرمزيات.

ولا شك في أن تلك الترسانة المفهومية واللوجستية كانت تسعى جميعا إلى تجذير الاستقطاب الهووي وإلى التمهيد لعودة المنظومة النوفمبرية إلى الحكم تحت غطاء البورقيبية وما يسندها من الأساطير المؤسسة للدولة-الأمة.

الأخ الأكبر/ المنقذ: وريث البورقيبية وحامي"النمط المجتمعي"

يستطيع المراقب للشأن التونسي أن يجزم بأن الباجي قائد السبسي وحزبه قد وصلا إلى الانتخابات الرئاسية والتشريعية سنة 2014 في وضعية لم يكن أكثر الناس سريالية ليحلم بها في المرحلة الأولى التي أعقبت الثورة.

فمن جهة علاقته بالنهضة والترويكا، بدا وكأنّ "رجل الدولة" الباجي القائد السبسي هو الشخصية الأقدر على حماية "النمط المجتمعي التونسي" وفرض "هيبة الدولة" على الجميع. أمّا من جهة علاقة "زعيم النداء" بحلفائه في "العائلة الديمقراطية"، كان قائد السبسي قد انتقل من وضعية الشريك إلى وضعية الأخ الأكبر. وأصبح "الشخصيات الثورية"، خاصة الشخصيات اليسارية التي تحالفت معه في جبهة الانقاذ أو في الاتحاد من أجل تونس مجرد "عناصر وظيفية" في استراتيجيات إعادة التوازن للمنظومة الدستورية-التجمعية، وقد كان من المفترض أن تكون تلك المنظومة -برموزها وتاريخها وفلسفتها السياسية وخياراتها الكبرى- بمثابة النقيض الموضوعي والمفهومي لكل من يتحرك في الأفق الثوري، خاصة القوى التقدمية الذي انتظمت في الجبهة الشعبية.

وبصرف النظر عن موقفنا من "تبريرات" القوى الحداثية للصيرورة التي أنتجت هذا الوضع (مثل التصدي لتغوّل النهضة وللخطر التكفيري وحماية النمط المجتمعي التونسي)، فإن الباجي قد وجد نفسه في الانتخابات الرئاسية -خاصة في الدور الثاني منها- مرشح الأغلب الأعم من القوى الديمقراطية، كما أصبح حزبه (وريث"التجمع" المنحل) القيّم على "الخطاب السياسي الكبير"(خطاب البورقيبية والدفاع عن "النمط المجتمعي")، ذلك الخطاب الذي لم تستطع كل القوى السياسية- بما فيها حركة النهضة- أن تتحرك واقعيا إلا في حدود رهاناته وخياراته الكبرى،أي في أفق إعادة إنتاج "عقله السياسي" والجزء الأهم من مصالحه المادية والرمزية.

-المورّث: عودة المكبوت الاستبدادي

ماذا يمكن أن ننتظر من سياسي اكتسب شرعيته نظريا من "البورقيبية" المؤسسة للدولة الحديثة (ولكنه يمثّل البورقيبية "المريضة" والمفتوحة على صراعات التوريث، لا البورقيبية "الطموحة" والقويّة قبل أن تتحوّل إلى ممارسة استبدادية)، ماذا يمكن أن ننتظر من "نيو-تجمعي" وصل إلى قصر قرطاج عبر التصويت المباشر باعتباره  وريث البورقيبية التي "انحرف" عنها المخلوع ولم يكن نتيجتها الطبيعية ولحظتها القصوى، وكيف يستطيع العقل السياسي الذي شكلته أساطير "النمط المجتمعي" أن يُفكر ضمن أفق مواطني اجتماعي لا يعيد إنتاج المنظومة السابقة وإن من وراء ألف حجاب؟ إنهاالأسئلةالتي ينبغي علينا الانطلاق منها لفهم الأداء  السياسي للباجي قائد السبسي بعد أن فاز بالانتخابات الرئاسية سنة 2014.

هيبة الدولة أم خيبتها؟

متسلّحا بمفهوم "هيبة الدولة" (بما هي هيبة تنحاز للنظام  وأجهزته القمعية لا للمواطن وانتظاراته المشروعة)، فهم الباجي قائد السبسي انتصاره في الرئاسيات باعتباره تأييدا وشرعنة لعودة المنظومة السابقة تحت غطاء البورقيبية، كما فهم ذلك الحدث باعتباره تكليفا شعبيا يُطلق يده ( مثلما فعل بورقيبة تماما) في شؤون الدولة والحزب بصرف النظر عن مخالفة ذلك للدستور أو مطابقته له. إننا أمام صيغ مخاتلة ل"عودة المكبوت" الاستبدادي  جسّده "تغوّل" مؤسسة الرئاسة على حساب باقي المؤسسات التنفيذية والتشريعية. ولا شك في أنّ جملة المبادرات اللاّدستورية التي اقترحتها الحكومة ليست إلا مبادرات رئاسية تضطلع الحكومة فيها بدور"الواجهة القانونية".

سواء أكان في المعارضة أم في الحكم، لم يُظهر الباجي قائد السبسي أي مديونية للثورة وشهدائها، ولكنه لم يُخف يوما دَينه الأوحد للبورقيبية ودولته-الأمّة التي نجح في جعلها الأفق الأعلى للتفكير السياسي بين أولئك الذين يُموضعون مشاريعهم "نظريا" ضمن فضاء أرحب (كالأمة العربية أو الأمة الإسلامية)، بل حتى بين اليساريين الذين كان من المفترض فيهم أن يُفكروا بمفاهيم مغايرة وضمن أفق مواطني مغاير (انطلاقا من الصرّاع الطبقي ومركزية المسألة الاقتصادية).

ولم يكن نجاح الباجي (ومَن خلفه من شبكات جهوية وأمنية ومالية وإعلامية) منحصرا في مستوى الخطاب والرمزيات( جعل أسطورة النمط المجتمعي التونسي خارج دائرة النقد والمساءلة)، بل كان أيضا نجاحا في مستوى تثبيت البنية التسلطية ذاتها ومنع أي تغيير جذري في مستوى تقاسم السلطة والثورات المادية.

النجاح المؤقت والهشّ

نجح الباجي مؤقتا في تثبيت البنية الجهوية للحكم وفي جعل اللحظة الثورية  تبدو وكأنها استعادة للبورقيبية التي "خانها" المخلوع ونظامه. ولكنّ هذا النجاح الظاهر و"التكتيكي" يحمل في طياته فشلا استراتيجيا كبيرا يجعل من "ملحمة النجاح" مجرد لحظة عابرة في مسار مأزوم بنيويا : فشلٌ أوّل في الإنصات لحركة التاريخ والرغبة في الارتداد إلى منطق "الأب/الزعيم" حيث يتماهى الرئيس مع الحزب والدولة وتتعاظم سلطة مراكز القوى الراغبة في وراثة "الزعيم"( بين إبن بيولوجي يستمد شرعيته من النسب العائلي و"أبناء فكريين" يستمدون شرعيتهم من النسب السياسي)، وفشل ثان في التأسيس لعلاقة شراكة مع الإسلاميين تتجاوز الإكراهات الانتخابية المؤقتة والهشّة، وفي بناء ثقافة ديمقراطية داخل الحزب وفي العلاقة بالقوى "الحداثية" خارجه.

لا شك في أنّ عودة الباجي قائد السبسي (ومعه أغلب مكوّنات المنظومة التجمعية) إلى مركز الحقل السياسي لم تكن عملية عفوية ولا اعتباطية. ولا شك في أنّ تلك العودة قد اعتمدت إلى حد ما على المؤهلات الذاتية للباجي (باعتباره خطيبا مفوّها وصاحب كاريزما على مقاس حماة "النمط المجتمعي") ولكنّها عودة تعكس طبيعة البنية التسلطية في تونس قبل الثورة وبعدها: سلطة سياسية تابعة وظيفتها "إدارة التخلف" وشرعنته، بل الاحتفاء به بما هو تعبير عن "نمط مجتمعي" و"استثناء ثقافي" يجب الدفاع عنه.

من هذا المنظور، يبدو أنّ الباجي قائد السبسي ليس إلا نتيجة حتمية لبنية الحقل السياسي التي عجز الفاعلون الكبار فيه عن تأسيس سردية الثورة وأساطيرها فدهمتهم البورقيبية من الجهات الستّ. ولم يكن "الانتصار المؤقت" للباجي قائد السبسي إلا علامة على عجز العقل السياسي التونسي عن التفكير بمنطق " ما بعد البورقيبية"، ممّا جعل الفاعلين الجماعيين -بلا استثناء- نهبا "للبورقيبية الجديدة" التي أحيت أسوأ ما في الدولة الاستبدادية (كالمنطق العائلي والتضامنات الجهوية والشبكات الزبونية والصراع الثقافوي والنزعة الأبوية والتداخل بين الحزب والدولة وغيرها من أمراض دولة الحداثة الزائفة).

خاتمة

لتجاوز المأزق السياسي الذي أوصلنا إليه الصراع الثقافوي بين الإسلاميين والعلمانيين، وللتقليل من المفاعيل الكارثية لعودة المنظومة الدستورية-التجمعية للحكم بعد انتخابات 2014 وما يعنيه ذلك من انقلاب نسقي على الانتقال الديمقراطي،  من المفروض على القوى الوطنية أن تتعامل مع الواقع  بصورة أكثر جدية ومسؤولية، وأن تتخفف بصورة واضحة من الضغائن الإيديولوجية التي لم ستفد منها -ولن يستفيد- إلا الطرف الأقوى والأقدر على ادعاء الوسطية (أي التجمعيون وورثتهم). وقد يكون التفكير في تجاوز الترابط السببي بين البورقيبية والدولة الوطنية (أي افتراض استحالة الدولة الوطنية خارج البورقيبية وفلسفتها السياسية) مدخلا جيدا لمراجعة الأساطير المؤسسة للدولة-الأمة.

فالخضوع لتلك الأساطير قد جعل الأغلب الأعم من النخب السياسية -بإسلامييهم وعلمانييهم- تخضع بدون أية مقاومة تُذكر للإملاءات الخارجية وللضغوط الداخلية المتأتية من مراكز القوى في المنظومة السابقة، والحال أنّ البورقيبية وأساطيرها التأسيسية قد استنفدت (بلحظتيها الدستورية والتجمعية) ممكناتها الإيجابية وأصبحت سببا من أسباب العطالة المجتمعية، وعلّة من علل غياب أي مشروع وطني للتحرر وبناء مقوّمات السيادة الوطنية. وهو ما يعني ضرورة أن تُفكر النخب السياسية "معًا" في أفق "ما بعد البورقيبية" وما يعنيه ذلك من عودة  الصراع الاجتماعي إلى مداراته الطبيعية – تمتّع الناس بحقوقهم الأساسية وتقاسم  السلطة والثروة بطريقة أكثر عدلا سواء في المستوىين الجهوي والفئوي- ولكنها مدارات" مزعجة" "للبورقيبي الجديد" ومن وراءه لأنّ  أساس شرعيتهم ( أي أسطورة النمط المجتمعي التونسي) لا يمكن أن تشتغل إلا بتهميش القضايا الحقيقية والدفع بها إلى دائرة اللامفكّر فيه...لكن إلى حين.
التعليقات (0)