الجوع هو أحد أسوأ الظواهر التي تعيشها المجتمعات؛ وليست القضية قضية الجوع الاختياري المبني على قرار شخصي سواء بالعبادة كالصيام أو أي سبب آخر؛ ولكنها قضية الجوع القهري الناتج عن عدم القدرة في الحصول على الطعام، فهو محل الحديث.
جان فالجان البطل الرئيس في بؤساء فكتور هوجو أحد ضحايا الجوع الذي قضى تسعة عشر عاما من أجل رغيف من الخبر لأولاد أخته البؤساء؛ حكم عليه بخمسة أعوام بالقانون. حسنا؛ فالقانون والقانونيين أصحاب صورة العدالة العمياء رأت أنه من الواجب حبس سارق الرغيف لإطعام أطفال خمسة أعوام، وعلى الجانب الآخر مارميلادوف أحد شخصيات ديستوفسكي الذي لم يجد طريقا آخر يذهب إليه على حد قوله، فقد ترك أولاده بلا طعام ولا مال واندفع ليشرب الخمر ربما ليهرب من عالمه؛ مما دفع ابنته سونيا لبيع نفسها من أجل المال، هذا كان وسط احتقار كامل لذاته ورغبته المستمرة في إهانتها حتى مات.
مارميلادوف لم يسرق ليطعم أولاده ومات ربما منتحرا كمدا واحتقارا لذاته، بينما ضاع عمر جان فالجان في سجون القانون من أجل رغيف من الخبز. ضاعت عائلة مارميلادوف المواطن الصالح، وضاعت أيضا عائلة جان فالجان اللص المذنب المواطن الفاسد المعادي للقانون.
هم وغيرهم من الملايين ضحايا الجوع وليس الجوع الناتج عن الكوارث الطبيعية كالجفاف وغيره ولكنه جوع ناتج عن الظلم الهائل الذي ملأ أرجاء العالم، وعلى الرغم من أن أبطال هوجو وديستوفسكي من القرن التاسع عشر إلا أنهم لا زالوا بيننا يعانون وربما أكثر مما عانوا في ماضيهم.
فالنموذجان حاضران؛ وكلاهما يناضل طيلة يومه ليحمل إلى أولاده ما يسد رمقهم وعندما لا يجد عملا يرى نفسه أمام حلين؛ إما أن يكون جان أو يكون مارميلادوف والفارق أن جان قرر أن من حق من يعولهم أن يأكلوا بينما قرر مارميلادوف أن ينسحب تماما من المشهد ويندفع في الحقارة إلي أدني مستوياتها حتى قرر أن ينهي حياته.
الأول "جان" ضحية انتهاك القانون والظلم بينما مارميلادوف ضحية الالتزام بالقانون والظلم أيضا، فلا أعتقد أن من الطبيعي أن يعاني العالم من الجوع ولكن يبدو أنه من طبائع "النظام" أن تقل الموارد من أجل الحصول على الأيدي العاملة التي تتوق إلى الطعام والمأوى، وليست هناك مشكلة أن يموت الملايين من الجوع عندما تحدث أزمة ما؛ فالمهم أن تبقى هناك الأيدي العاملة جاهزة في كانتونات المدن.
وبعد أن أصبحت مصر أرض الظلم التي لا تعرف أرضها إشراقة شمس العدالة؛ أصبحت ممتلئة بكلا النموذجين، فنجد في مصر من يقتل نفسه بعد معاناة طويلة مع حياته التي لا يعرف لها طريق، ونجد من يحاول الحصول على طعامه بأي شكل؛ فنجد من يأكل من القمامة ومن يشتري بقايا طعام الفنادق والمحلات، ونجد أنواعا غريبة من الطعام بدأت في الظهور في مصر أرض النيل والشمس والبشر، ولكنه الظلم والقانون الذي يحاصر مصر من جنباتها الأربع.
كلهم في مصر مثل مارميلادوف بأشكال حديثة، فمن ينتحر يحذو حذوه تماما ومن يأكل من القمامة فهو على طريق الرجل المنتحر؛ فقط لا يزال يحافظ علي جسده دون موت ظاهر حتى حين.
لماذا لا نجد جان فال جان في كل شوارع مصر؟
في دولة الفساد يصبح القانون هو إرادة الأقوى وهو المعبر عن مصالح الأقوى؛ فعند توحد القانون مع السلطة الفاسدة؛ يصبح وسيلة لترسيخ الفساد وإشاعة وترسيخ الظلم المتفشي في مصر، وعلى ذلك يصبح الفقر مستشريا في مصر ويزداد يوما بعد يوم منتجا الكثير من مارميلادوف.
إن مصر الآن وفقرائها يحتاجون إلى ما قاله الإمام بن حزم حول حق من لا يجد قوت يومه، فقد قال بن حزم ذلك في مجتمع لم يكن يحمل كل هذا الحجم من الظلم والفساد، ومع ذلك أباح لمن لم يجد قوت يومه أن يحصل عليه ممن لا يبالون بجوعه وجوع أولاده، وإذا قتله أحد فعلى القاتل الدية، وهذا لأن حق الطعام حق مطلق للجميع والمجتمع بأكمله يتحمل تبعات وجود الجائعين.
ما قاله بن حزم في مجتمع لم يبلغ الظلم ما بلغه الآن يصبح واجبا وحتميا لكل من لا يجد قوت يومه، ويجب على جان فالجان ومن يشبهوه أن يبحثوا عن طعامهم وطعام أولادهم ليس في صناديق القمامة؛ بل في أي مكان ممكن ، فعندما تحتكر السلطة كل شيء تحت تهديد السلاح و"القانون" وعندما يحتجز النظام الملايين في معسكرات المدن؛ فعلي المحتجزين الممنوعين من العمل والطعام أن يجتازوا الحدود الفاصلة، وإذا كان عبور حد سلاح السلطة صعبا فعلى الأقل؛ على الجميع عبور حد القانون الجائر الذي لا يرى إلا بعين واحدة طرفا واحدا.
إن جان فالجان قضى عمره في السجن ليس من أجل رغيف الخبز ولكن من أجل احترام القانون الذي لا يعبر عن العدالة؛ فإذا كان القانون لا يعبر عن العدل؛ فمن العدل أن نلقي به في أقرب سلة قمامة بدلا من أن نأكل منها، ولا يوجد مظهر للظلم أكثر قسوة من الجوع في عالم يحقق فائضا في إنتاج الغذاء.
إذا لم تجد طعاما لك ولأولادك فلا تكن منتحرا محتقرا لذاتك مثل مرميلادوف ولا تكن مطيعا لقوانين الظلم مثل جان فالجان؛ فمن يبحث عن طعامه وطعام أولاده ليس لصا.