كتاب عربي 21

في تونس.. الإرهاب "البوليسي" الجديد

محمد هنيد
1300x600
1300x600
ما كان يمكن وضعُ نعت "الأمني" مكان "البوليسي" بعنوان المقال لأن الجريمة الشنعاء التي حدثت في تونس مؤخرا والتي لا تزال أطوارها تتفاعل إنما تتناقض تمام التناقض مع مصطلح الأمن وقوات الأمن وظيفةً وبنية وأهدافا بما هي ضامن للسلم الاجتماعي ولسلامة المواطن والمجتمع.

أصل الحكاية مقطع مصوّر بمنطقة "الكبّارية" من أحزمة الفقر والموت التي تلف عاصمة "المجاهد الأكبر" و"رجل التغيير" وفيه يستبسل عونا أمن في الاعتداء ضربا وركلا وإهانة لكهل متقدم في السن أمام الناس وفي واضح النهار دون اكتراث بأحد. حادثة الاعتداء البشع جاءت ردا على أن الرجل المعتدى عليه اشتكى من سرعة السيارة التي كانت تقودها "امرأة" على علاقة بأحد رجال الأمن الذي كان معها في السيارة وهي كما أقرت بذلك مهاجرة تحمل الجنسية الألمانية. "الأنثى" ـ مع التحفظ على النعت ـ لم تتردد في لكم الرجل وشتمه وإهانته مع صديقها "البوليسي" بعد قدوم بوليسي آخر ادّعى أنه رئيس النقطة الأمنية لمنطقة "الكبّارية".  هذا يعني أن الاعتداء على المواطن المسكين كان ثلاثيا بين رجلي شرطة ومنحرفة على علاقة بالشرطة كما صرّحت بذلك وسائل التواصل الاجتماعي التي لا تزال تشتعل بسبب الواقعة وهي تعكس حجم الاهانة اليومية للمواطن الفقير أمام تغوّل الدولة البوليسية وقد عادت لتكشر عن أنيابها بعد هروب رئيس العصابة وقائد الشرطة "بن علي" يوم 14 جانفي 2011.

لكن رغم صمت السياسيين ونخب العار التونسية عن الحادثة فإن الفضاء الافتراضي الذي كشف الجريمة أظهر تيقظا كبيرا أمام عودة الدولة البوليسية وأمام حجم الاهانة التي يلقاها المواطن الفقير بسبب إرهاب الشرطة وتسيب عناصرها دون حسيب أو رقيب. 

لن ننسى أن الثورة التونسية قد اندلعت بسبب حادثة مماثلة أطاحت ببن علي وبزبانيته ولن ننسى أيضا أن حاجز الخوف الذي كان يكبّل العرب في تونس قد زال وسقط وأنه يستحيل ترميمه حضاريا لكن يبدو أن الدولة العميقة ومن يمثلها قد نسيا هذه الحقائق. الأخطر في ممارسات العنف والقمع والتعذيب ـ التي أكدها سابقا رئيس المرصد التونسي لاستقلال القضاء القاضي "أحمد الرحموني" ـ هو أنها الحاضنة الرئيسية للإرهاب بما هو عند كثير من الشباب ردّة فعل مرَضية عن الإهانة والاحتقار الذي تمارسه الدولة القمعية وهو كذلك ما يفسّر مصطلح " الطاغوت " القرآني الذي تصف به جماعاتُ العنف قواتَ الشرطة والأمن. 

الإرهاب الحقيقي في تونس هو الفقر والتهميش وأحزمة الموت التي لا تنتهي. الإرهاب هو البطالة وانعدام الأفق واليأس والموت البطيء. الإرهاب هو دولة الفساد التي تنهب فيها العصابات مليارات الدنانير من المال العام ومن خزينة الدولة بتآمر ومشاركة الدولة نفسها. الإرهاب هو "إعلام العار" الذي ينفث سمومه كل يوم تدميرا في الهوية وبثا للفوضى وتأليبا للرأي العام وتهديدا للسلم الاجتماعي. الإرهاب أخيرا هو إرهاب البوليس الذي يفتك بالمواطن الفقير فتكا فتكا في حقد نادر ومرض عضال أورثه نظام الرئيس الهارب لمن كان يده الضاربة في رقاب التونسيين والتونسيات. 

لقد كان شعار "العدالة الاجتماعية" و"الحرية والكرامة" أهم شعارات الثورة التونسية من أجل القطع مع الماضي الارهابي لدولة البوليس التونسية  دولة "بن علي" وزبانيته لكن الدروس الأخيرة المستوحاة من يوميات "المواطن الزوّالي" ـ كما يسميه التونسيون ـ تكشف أنّ دار لقمان لا تزال على حالها وأنّ الدولة ـ أو وهم الدولة ـ لا تريد استئصال الورم القمعي من جذوره. 

بناء عليه فإن شروط تجدّد الثورة التونسية لا تزال قائمة ما دامت نفس الممارسات التي من أجلها اندلعت لا تزال قائمة لأنّ الجميع يعلم أنّ المقطع المصوَّر يخفي آلاف المقاطع الأخرى غير المصوَّرة والتي تمارس في حق المسحوقين من أبناء الشعب التونسي انتقاما من الثورة والثوّار كل يوم في مراكز الايقاف والتحقيق. 

لقد أطاحت ثورة الحرية التونسية يوم 17 ديسمبر 2010 بالهيبة الفارغة لبوليس "بن علي" وأقرت أن لا سيادة إلا للشعب وحده كما أظهرت حجم التسامح الكبير الذي أبداه الشعب التونسي العظيم أمام من عذّبوا ونكّلوا وسحقوا الآلاف من الأبرياء لعقود طويلة. لم ينتقم الشعب التونسي من جلاديه ولم يحاسب أحدا في الوقت الذي لزم فيه البوليس منازلهم إبان الثورة خوفا من النقمة الشعبية العارمة.

هكذا كانت فرصة المصالحة الوطنية ممكنة بين رجل الأمن بالمفهوم الجمهوري والمواطن بالمفهوم الثوري غداة هروب بن علي لكن تمرّد الإطارات الأمنية العليا المرتبطة بالقوى الخارجية وبمنظومة السفارات الأجنبية منعت هذه المصالحة التاريخية. هكذا يجد الأمني القاعدي نفسه ممزقا بين تمرّد كثير من العناصر المحسوبة عليه وبين المطالبة الشعبية بأمن جمهوري وطنيّ يقطع مع العقليّة الاجرامية لنظام " بن علي " خاصة وأنّ الأمنيّ هو من سيدفع وحده ثمن القمع والتنكيل في الحالات القصوى الشبيهة بيوم 14 جانفي 2011.

إن إعادة النظر في الثقافة الأمنية وفي التكوين النفسي للأمنيين ومعاقبة الممارسات الاجرامية والارهابية لبعض الأفراد والجماعات المرتبطة بقطاع الأمن يمثل أهمّ أولويات المنظومة الأمنية نفسها حتى تستطيع منع التعميم الذي أصبح يغطي كامل الفضاء الافتراضي في الحكم على رجل الأمن ويسيئ كثيرا إلى المسار الانتقالي برمته قبل الاساءة للعائلة الأمنية. 

دون ذلك يبقى الصفيح التونسي والعربي ساخنا حارقا ولن يزيده إرهابُ الدولة الأمنية في مصر وتونس وسوريا إلا اشتعالا حتى تحمرّ أطرافه فتطرُقَه معاولُ الثوّار من جديد من أجل غد لن ترضاه إلا مشرقا حافظا لكرامة الإنسان العربي وحريته رغم إرهاب النظام وإرهاب بوليس النظام وعصاباته. 
التعليقات (0)