كتاب عربي 21

تمنينا الفشل ... ففشلتم!

عبد الرحمن يوسف
1300x600
1300x600
في مثل هذه الأيام من العام الماضي كانت القاهرة تعيش حالة يمكن تسميتها بالعُرْس الإجباري، بسبب اقتراب موعد انعقاد المؤتمر الاقتصادي لرئيس جمهورية الأمر الواقع عبدالفتاح "سيسي".

كانت اللافتات في الشوارع إجبارية، يمُرُّ رجال البلدية والمباحث على الشركات والمحلات التجارية كالقضاء المستعجل، يبتزون الناس، فيعرضون لافتات الدعاية للمؤتمر جاهزة للبيع (بأضعاف ثمنها طبعا)، و"كل برغوث على قد دمه" كما يقول المثل، يترزقون ببيعها للناس غصبا، وبهذه الطريقة امتلأت شوارع المدن الكبرى باللافتات، وامتلأت جيوبهم بالمال الحرام!

أحد أصدقائي يملك شركة دعاية وإعلان متخصصة في تأجير لافتات الشوارع، أجبروه على ملء غالبية اللافتات التي يملكها بالدعاية لهذا المؤتمر (مجانا) بدلا من تأجيرها، وحين قال لهم (كده حيتخرب بيتي)، كانت الإجابة بأنه إذا لم يفعل ذلك فسوف يعرف المعنى الحقيقي لخراب البيوت، وهددوه بأن عقد اللافتات الذي يجدد كل عام من المحافظة لن يتم تجديده أصلا، وبالفعل ... اضطر صديقي إلى وضع اللافتات على حسابه ودون أي مقابل على جميع المواقع الحيوية التي يدفع فيها "دم قلبه"!
القنوات الفضائية كانت تتنافس على إظهار عظمة المؤتمر، وفوائد المؤتمر، وأصبحت المبالغات في غاية السخافة.

كان نظام "سيسي" في ذلك الوقت يعاني ضعفا واضحا، بعد أن ظهرت حقيقة تحيزه للأغنياء، وبعد أن أكل الجيش كعكة الاقتصاد حتى أوشك كرشه على الانفجار.

كتبت في ذلك الوقت مقالة شهيرة بعنوان (نتمنى لكم فشلا ذريعا)، فقامت الدنيا ولم تقعد، وبدأ هجوم مئات الكلاب المسعورة على الشاشات والصحف والمواقع الإلكترونية، حملة منظمة على شخصي، ووالدي (كالعادة)، مع تحريض سافر على العنف، وتشكيك سافل في وطنيتي.

خلاصة مقالتي، كانت أننا نتمنى الفشل للاستبداد، وأن الاستبداد هو الفشل، وأنه لا أمل في أي نجاح مع الاستبداد، وكل نجاح يحققه المستبد ليس أكثر من فشل مؤجل أو فشل مقنع، أو نجاح سطحي مؤقت، وأن تمني نجاح المستبد بحجة الخوف على الوطن حماقة، وهي مثل أن تتمنى لابنك أن ينجح في تجارة المخدرات لأنه قد فشل في دراسته، أو أن تتمنى لابنتك النجاح في الدعارة لأنها لم تتمكن من الزواج!

وقلت إن المؤتمر فاشل لا محالة، لأن مصر في ظل الانقلاب العسكري بلد لا يمكن أن تجذب استثمارا، ولا يوجد شخص عاقل يأتي بأمواله إلى هذا البلد الغارق في الفساد والبيروقراطية بسبب حكامه الحمقى الجهلاء.

بدأ المؤتمر ... ورأينا ورأى العالم كله مهرجانا للكذب والإفك!

الصحف تتحدث عن مئات المليارات من الدولارات، ومشاريع لا أول لها ولا آخر، ولو أن عُشْرَ ما تحدثت به الصحف تحقق لكانت مصر اليوم في مكان آخر، ولكنها في الحضيض بفضل "سيسي" والأربعين جنرالا.
مر عام ... ما أخبار مؤتمركم يا سادة الإعلام؟

تعالوا ننظر سويا!

لقد تساقطت جميع الوعود، وألغيت جميع المشاريع بلا استثناء، وظهرت حقيقة الدولة المصرية واضحة جلية، إنها دولة لا يأمن المرء فيها على نفسه ولا على عرضه ... فضلا عن ماله.
في الذكرى الأولى للمؤتمر الاقتصادي المزعوم قرر بنك "باركليز" البريطاني الخروج من السوق المصرية.

وليس هذا هو أول البنوك الأجنبية خروجا من السوق المصرية بعد انقلاب الثالث من يوليو، فقد سبقه إلى ذلك بنك "بيريوس"اليوناني، جهابذة الانقلاب آنذاك برروا خروجه بمشاكل الاقتصاد اليوناني، وهم اليوم يبررون خروج "باركليز" بأنه خروج من السوق الإفريقية كلها، وليس خروجا من مصر فقط، والحقيقة أن الخروج من مصر هو سبب الخروج من إفريقيا، وليس العكس، كما أن إعلان البنك عن الخروج من مصر فقط فيه استفزاز لحكومة الانقلاب، وهو أمر لا يقع فيه أي شخص يريد أن يهرب من هذا البلد بأمواله!!!

في يناير 2015  قال البنك العربي الإفريقي الدولي، إنه نجح في إبرام اتفاق للاستحواذ على أصول بنك "نوفا سكوشيا" الكندي بمصر بعد خروجه من السوق المصرية، وفي مايو 2014 قال البنك الوطني العماني إنه حصل على موافقة البنك المركزي المصري للتخارج، وغير ذلك من البنوك التي هربت من السوق المصري.

سعر العملة الآن غير معروف ... أخشى أن أكتبه اليوم، ثم يتغير حين تنشر المقالة بعد يوم ونصف!
شركات الطيران الأجنبية على وشك أن تغادر البلاد، وبعضها يدرس مطالبة الحاجزين بشراء تذاكرهم بعملات أجنبية.

مصر اليوم على أبواب مرحلة خطيرة لم تعرفها من قبل، لقد بدأنا مرحلة الدَوْلَرَة، (Dollarization)!!!
لقد بدأت إشارات مهمة تؤكد انهيار العملة المحلية، وستجبر الناس بالتدريج إلى التعامل بالدولار بدلا من الجنيه، وهذا أمر في غاية الخطورة، ولو تحول الناس في بلد مثل مصر إلى التعامل بالدولار ستكون عملية إعادة الثقة في العملة المحلية أمرا في غاية الصعوبة، وسيستغرق سنوات وسنوات (تذكروا التجربة التركية).

والأهم من ذلك كله ... أحوال السواد الأعظم من الناس، لقد ازدادت أحوال الناس عسرا على عسر، ولكن بحمد الله ازدادت جيوب السادة الجنرالات وكروشهم امتلاء، فاستحوذ الجيش على كل شيء.
آلاف الشركات والمصانع أغلقت، مئات الآلاف هربوا من مصر، وملايين الشباب العاطل في انتظار أن ينقذهم أحد بأي عقد عمل في الخارج.

لقد أثبتت الأيام أن الفشل قرين الاستبداد، وأن النجاح لا يمكن أن يأتي على جثث المواطنين الأبرياء، وأن جنرالا حقيرا لا يمكن أن يأتي من ورائه إلا الخراب.

لقد شارك آلاف الكاذبين من الإعلاميين والفنانين والكتاب والمثقفين في تمرير هذا الخراب إلى بسطاء الناس، وكانت النتيجة مخزية، وها هم الفنانون يدفعون ثمن وقوفهم مع الاستبداد ضد الحرية والديمقراطية، وبإمكانك أن تحصي عشرات الأمثلة عن الخزي الذي لحق بكثير ممن سوَّق الوهم الاقتصادي.

لقد أهان نظام الانقلاب مصر، ورأينا كيف تملقوا أموال الخليج، وكيف كان مهرجان (مصر قريبة) مدعاة للسخرية والعار ... هل جاءتكم أموال الخليج؟ أما زالت أنهار الدراهم والريالات تجري من تحت بياداتكم؟
في النهاية، سيبقى أكبر خزي في هذا الموضوع هو خزي بعض الذين كانوا في يوم ما في معسكر الثورة، ووقفوا مع هذا الجنرال "السيكوباتي" في كذبه عن مؤتمره المزعوم بدعوى (حب الوطن)، وكأن حب الوطن لا بد أن يكون على حساب مبادئنا، فوقفوا يزايدون على الذين قدر الله لهم أن يقفوا في وجه الظلم، فلا هم قاوموا مع المقاومين، ولا هم صمتوا مع الصامتين، بل سجلهم التاريخ مع المزايدين، خارج معسكر الثورة، واقفين مع معسكر الثورة المضادة يجللهم العار.

لقد انتهى وَهْمُ المؤتمر الاقتصادي، وانتهى وَهْمُ الحاكم العسكري القوي الذي لا يهزم، وانتهى وَهْمُ الخطر الذي يهدد الدولة، وأصبح واضحا لكل ذي عينين أن الخطر الأكبر على دولتنا هو قياداتها الذين جاؤوا بالدبابة، وأنه لا خلاص لهذا الوطن إلا بانفتاح ديمقراطي كامل، به تقام دولة القانون، وبه يصبح المصريون سواسية، وتصبح الكفاءة والخبرة معيارا للنجاح.

بيننا وبين إسقاط هذا النظام الفاشي خطوات قليلة، وهو باق بسبب فرقة الثوار، وهو نظام لا يملك إلا مزيدا من العمل من أجل تفريق قوى الثورة.

دعوة إلى كل شباب مصر ... وإلى كل قوى الثورة ... بضرورة التخلص من أحقاد الماضي والنظر إلى المستقبل ...!

لقد كانت جميع المؤشرات تؤكد فشل هذا المؤتمر، فاللصوص لا يمكنهم أن يقيموا دولة قانون.

لقد تمنينا الفشل لهذا المؤتمر لأننا نحب بلدنا، ولأننا نتحيز لشعبنا العظيم، ولا نقبل أن تحكمنا عصابة من السفاحين، ولأننا لسنا من الذين يمكن أن يبتزهم القتلة باسم حب الوطن، وقد فشل مؤتمركم فشلا ذريعا كما تمنينا ... وكما توقعنا ... وسيفشل حكمكم ... وسننهي قريبا بإذن الله حقبة سوداء من عمر الوطن ... حقبة الحكم العسكري التي امتدت سبعة عقود!

عاشت مصر ... عاشت ثورة يناير ...
التعليقات (1)
محمود مصطفى
الإثنين، 07-03-2016 01:22 ص
مقال رائع يعبر عن فكر حر ومفكر جرئ