كتاب عربي 21

إسقاط الرئيس أكاديمي..

طارق أوشن
1300x600
1300x600
مشهد من فيلم "رسالة إلى الوالي" للمخرج نادر جلال، إنتاج 1998.

بعد نجاح حرفوش ابن برقوق الراكبد في الوصول إلى قلعة الجبل بالقاهرة للقاء والي مصر طلبا للمدد والمساعدة في فك الحصار عن مدينة رشيد التي أغارت عليها قوات المحتل الإنجليزي، يكتشف أن الجالسين في مجلس الخليفة مجرد تماثيل لا تسمع ولا تبصر ولا تغني عنه شيئا، فانهال عليها ضربا وتدميرا. حرفوش مبعوث آت من زمن ماض ليجد نفسه في أتون تناقضات وتقلبات مصر الحاضر لا دليل يساعده على الفهم غير الدكتورة إيناس. يجلس حرفوش جانبا والتأثر باد عليه.

حرفوش: أنا حاسس أن مصر في خطر. التاريخ بيعيد نفسه ولازم أوصل رسالتي. حاسس أنه في خطر على مصر. مين الوالي الأيام ده؟

إيناس: إحنا معندناش والي. إحنا عندنا ريس.

حرفوش: ريس؟ وده عثماني ولا ألباني؟

إيناس: ولا عثماني ولا ألباني.. مصري.

حرفوش: مصري؟ عجيبة. مصري يحكم مصر. وده مين إيلي اختاره؟
إيناس: إحنا.

حرفوش: إنتو مين؟

إيناس: إحنا المصريين.

حرفوش: مصريين؟ هما إيلي اختاروا الريس. واختاروه ليه؟

إيناس: لأنه كان بطل من أبطال حرب أكتوبر.

حرفوش: مين أكتوبر؟

إيناس: الحرب إيلي بيننا وبين إسرائيل.

حرفوش: مين إسرائيل؟

إيناس: إسرائيل، دولة اليهود.

حرفوش: دولة اليهود؟ من امتى اليهود كان ليهم دولة؟

إيناس: ده حكاية طويلة.

حرفوش: والريس ده حارب وانتصر؟

إيناس: انتصر.

حرفوش: يعني فارس. يبقى حيفهمني. لازم أقابله.

إيناس: تقابل مين؟

حرفوش: أقابل الريس. فين قلعته؟

إيناس: لأ. هو مش في قلعة. هو في القبة، كبري القبة.

حرفوش: وهو بيعمل إيه ع الكبري؟

إيناس: لأ. قصر الرئاسة في القبة.

حرفوش: لازم أقابلو. يالله بينا.

إيناس: تقابل مين؟ إنت عايز تودينا في داهية.

حرفوش: مفيش وقت يالله بينا.

هكذا كان يقدم الرئيس المصري الأسبق محمد حسني مبارك في السينما ومختلف وسائل الإعلام والمقررات الدراسية بطلا للحرب والسلام وبانيا للدولة المصرية الحديثة وراعيا للديمقراطية وحقوق الإنسان. هي صورة نمطية تنتقل من رئيس إلى آخر ومن زعيم إلى زعيم على طول جغرافيا الديكتاتورية والاستبداد من المحيط إلى الخليج. فالزعيم بطل ملهم لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وإن كانت من شائبة في حكمه المديد، بالطبع، فمرجعها البطانة الفاسدة قبل أن يصير الشعب هو المسؤول عن أي تقصير في أدبيات عهد ما بعد "الربيع العربي".

خطاب التأليه والتمجيد الذي سيطر لعقود ولا يزال على العقلية العربية حكاما و"جماهير" أفضى في النهاية لوضع عام متدهور تكلست في العقول وانتفت خلاله الحلول الإبداعية وسيطر الفساد في البر والبحر. وكان لزاما أن يحدث شيء ما يحرك المياه الآسنة، فأشعل البوعزيزي النار في نفسه، ولم يكن السباق لذلك لكنه القدر ومعه بعض من إرادة القوى العالمية الكبرى أرادت فكان لها ما أرادت.

خرج المصريون إلى الشوارع في الخامس والعشرين من شهر يناير من العام 2011 فوجدت القنوات التلفزيونية في ذاك الخروج فرصة لتعويض ما فاتها في التجربة التونسية المفاجئة. توزعت الكاميرات ومعها المراسلون الميدانيون في كل بقعة من بقاع أرض الكنانة تنقل الأحداث لحظة بلحظة وتنشر فيديوهات الهواة التي تحولت إلى مادة أساسية في نشرات الأخبار. وهكذا عاش العرب أكبر برنامج تلفزيون واقع باسم "إسقاط الرئيس أكاديمي"، وفيه تابعنا يوميات المشاركين من رجال السلطة وأجهزتها ومن الناشطين المحتجين وفعالياتهم في انتظار يوم الحسم والتصويت: يوم الجمعة.

مرت ثلاثة أيام أولى من الحراك المصري دون أن تأشر على كفة مائلة لهذا الطرف أو ذاك حتى حلول مساء "جمعة الغضب" حيث اشتعلت الأحداث وظهر أن الحراك جدي وأن المواجهة أمر لا مفر منه. لأجل ذلك ظهر مبارك على شاشات التلفزيون يقدم روايته للأحداث ويعرض رؤيته للحل. فكان الخطاب الأول.

"إنني كرئيس للجمهورية وبمقتضى الصلاحيات التي خولها لي الدستور كحكم بين السلطات أكدت مرارا وسوف أظل أن السيادة للشعب وسوف أتمسك دائما بحقه في ممارسة حرية التعبير طالما تم في إطار الشرعية واحترام القانون... وإنني إذ انحاز كل الانحياز لحرية المواطنين في إبداء آرائهم أتمسك بذات القدر بالحفاظ على أمن مصر واستقرارها وبعدم الانجراف بها وبشعبها لمنزلقات خطيرة تهدد النظام العام والسلام الاجتماعي... إنني لا أتحدث إليكم اليوم كرئيس للجمهورية فحسب وإنما كمصري شاءت الأقدار أن يتحمل مسؤولية هذا الوطن وأمضى حياته من أجله حربا وسلاما... لقد طلبت من الحكومة التقدم باستقالتها اليوم وسوف أكلف الحكومة الجديدة اعتبارا من الغد بتكليفات واضحة ومحددة للتعامل الحاسم مع أولويات المرحلة الراهنة وأقول من جديد إنني لن أتهاون في اتخاذ أية قرارات تحفظ لكل مصري ومصرية أمنهم وأمانهم وسوف أدافع عن أمن مصر واستقرارها وأمان شعبها فتلك هي المسؤولية والأمانة التي أقسمت يمينا أمام الله والوطن بالمحافظة عليها". 

انتهى الخطاب، فهل انتهت الحكاية؟ لا، طبعا. 

فتحت هواتف القنوات الفضائية المصرية على "المواطنين" تنقل تأثرهم بخطاب الرئيس ودعوتهم الشباب الطاهر بالعدول عن التظاهر خوفا من انتشار الفوضى التي تسبب فيها فتح السجون وإطلاق يد البلطجية على رقعة البلد وانسحاب الشرطة من مواقعها وقطعت شبكات الإنترنت، لكن الحشد تواصل وخرج المصريون بأعداد غير مسبوقة مؤكدين على شعار إسقاط النظام. وكان لابد من خطاب ثان.

".. وبالنظر لهذا الرفض لدعوتي للحوار وهي دعوة لاتزال قائمة فإنني أتوجه بحديثي اليوم مباشرة لأبناء الشعب بفلاحيه وعماله مسلميه وأقباطه شيوخه وشبابه ولكل مصري ومصرية في ريف الوطن ومدنه على اتساع أرضه ومحافظاته... إنني لم أكن يوما طالب سلطة أو جاه ويعلم الشعب الظروف العصيبة التي تحملت فيها المسئولية وما قدمته للوطن حربا وسلاما كما أنني رجل من أبناء قواتنا المسلحة وليس من طبعي خيانة الأمانة أو التخلي عن الواجب والمسؤولية... إن مسؤوليتي الأولى الآن هي استعادة أمن واستقرار الوطن لتحقيق الانتقال السلمي للسلطة في أجواء تحمي مصر والمصريين وتتيح تسلم المسئولية لمن يختاره الشعب في الانتخابات الرئاسية المقبلة.. وأقول بكل الصدق، وبصرف النظر عن الظرف الراهن، أنني لم أكن أنتوي الترشح لفترة رئاسية جديدة فقد قضيت ما يكفي من العمر في خدمة مصر وشعبها. لكنني الآن حريص كل الحرص على أن أختتم عملي من أجل الوطن بما يضمن تسليم أمانته ورايته ومصر عزيزة آمنة مستقرة وبما يحفظ الشرعية ويحترم الدستور.... إن حسني مبارك الذي يتحدث إليكم اليوم يعتز بما قضاه من سنين طويلة في خدمة مصر وشعبها. إن هذا الوطن العزيز هو وطني مثلما هو وطن كل مصري ومصرية. فيه عشت وحاربت من أجله ودافعت عن أرضه وسيادته ومصالحه وعلى أرضه أموت، وسيحكم التاريخ علي وعلى غيري بما لنا أو علينا".
انتهى الخطاب، فهل انتهت الحكاية؟ لا، طبعا. 

انهمرت دموع المذيعين والمذيعات فأبكوا المواطنين الشرفاء الذين أعلنوا أسفهم للريس وبكوا أوضاع البلد والعباد. لكن رد فعل المعتصمين في التحرير كان رمي الشاشات بالأحذية والإصرار على شعار إسقاط النظام بلا بديل. ولأن النظام اعتقد أن نتيجة التصويت بعد الخطاب العاطفي صارت لصالحه، فقد دعا الجيش المواطنين إلى مغادرة الميادين قبل أن يوعز لداعميه باقتحام ميدان التحرير وتأديب "شوية العيال" العصاة العاقين للأب الرئيس، فكانت موقعة الجمل الشهيرة فضيحة مدوية وصفعة حقيقية لنظام حيث ظهر فاقدا أعصابه وأسلحته في ذات الآن.

لقد بكى المذيعون ولم يؤثروا، وتباكى الفنانون على البلد التي تحترق وناحت الممثلات على البيتزا التي لم يعد بالإمكان تناولها ولم يؤثرن، وفشلت مساعي من أسموا بالحكماء من الساسة المنتظرين لفرص الظهور بمظهر القادة طمعا في منصب يقربهم من رأس النظام.

اختفى مبارك من المشهد أو يكاد عشرة أيام كاملة ترك فيها تصريف الأزمة لمعاونيه على أمل الوصول إلى حل فانطلقت المشاورات، وشملت حتى القوى المحظورة، لتحديد أجندة التعديلات الدستورية ورفع حالة الطوارئ، واعتقلت قيادات أمنية وأقيلت أخرى حزبية ومنعت رموز فاسدة من السفر ... واقتربت جمعة الزحف. فكان لابد من خطاب ثالث.

"أقول لكم قبل كل شيء، إن دماء شهدائكم وجرحاكم لن تضيع هدرا، وأؤكد أنني لن أتهاون في معاقبة المتسببين بها بكل الشدة والحسم، وسأحاسب الذين أجرموا في حق شبابنا بأقصى ما تقرره أحكام القانون من عقوبات رادعة... إن مصر تجتاز أوقاتا صعبة لا يصح أن نسمح باستمرارها فيزداد ما ألحقته بنا وباقتصادنا من أضرار وخسائر يوما بعد يوم، وينتهي بمصر الأمر إلى أوضاع يصبح معها الشباب الذين دعوا إلى التغيير والإصلاح أول المتضررين منها... 

إن اللحظة الراهنة ليست متعلقة بشخصي، ليست متعلقة بحسني مبارك، وإنما بات الأمر متعلقا بمصر في حاضرها ومستقبل أبنائها... لقد كنت شابا مثل شباب مصر الآن، عندما تعلمت شرف العسكرية المصرية والولاء للوطن والتضحية من أجله. أفنيت عمري دفاعا عن أرضه وسيادته، شهدت حروبه بهزائمها وانتصاراتها، عشت أيام الانكسار والاحتلال وأيام العبور والنصر والتحرير. أسعد أيام حياتي يوم رفعت علم مصر فوق سيناء. واجهت الموت مرات عديدة طيارا وفي أديس أبابا وغير ذلك كثير. لم أخضع يوما لضغوط أجنبية أو إملاءات. حافظت على السلام. عملت من أجل أمن مصر واستقرارها. اجتهدت من أجل نهضتها. لم أسع يوما لسلطة أو شعبية زائفة. أثق أن الأغلبية الكاسحة من أبناء الشعب يعرفون من هو حسني مبارك، ويحز في نفسي ما ألاقيه اليوم من بعض بني وطني".

انتهى الخطاب، وكلكم يعرف كيف انتهت الحكاية، وانتقل البرنامج الأكثر مشاهدة في أقطار الوطن العربي إلى بقية البلدان وإن لم تتحقق فيها النهايات كما في النسخة الأولى.

مصر كانت صاحبة السبق، وفيها تكررت الملهاة في الثاني من يوليو 2013 حين ظهر الرئيس المنتخب محمد مرسي في خطاب مطول وحيد لخص فيه كل ما سبق أن قدمه سالفه في خطابات ثلاث. لكن النهاية في هذه النسخة كانت معدة سلفا وظهرت على منصة بيان القوات المسلحة وعلى شاشات التلفزيون مرة أخرى.

في مشهد نهاية فيلم مجانينو للمخرج عصام الشماع والمنتج سنة 1993، وبعد خروج المجانين والدكاترة لم يتبق في المستشفى غير المأمور حلمي الذي تحول في لحظة من لحظات الفيلم إلى زعيم على إثر انقلابه على الدكتور آدم. يمشي حلمي وحيدا داخل ساحة المستشفى حاملا بزته العسكرية على شكل فزاعة.

حلمي: أنا بهني الشعب على انتصاره ضد الخونة ووقفته الشجاعة ضد مرام وآدم وصبحي وكل الخونة والإرهابيين. أنا بطالبكم في ظل الظروف الصعبة ده أننا نلتزم الهدوء لأن ممكن يبقى فيه خونة ثانيين مستخبيين وسطينا. كمان مرة، أنا بهني الشعب......

الإعلام قد يسقط أنظمة أو يطبل لها ما شاء أن يفعل ذلك، لكنه أبدا لا يبني دولا ولا يحقق استقرارا.
التعليقات (0)