كتاب عربي 21

صقر قريش ووحش القرداحة

أحمد عمر
"حافظ الوحش الذي غيّر اسمه إلى حافظ الأسد"
"حافظ الوحش الذي غيّر اسمه إلى حافظ الأسد"
جلس أبو جعفر المنصور يوما في أصحابه، فسألهم:

"أتدرون من هو صقر قريش؟"، فقالوا له: "أمير المؤمنين الذي راض الملك، وسكّن الزلازل، وحسم الأدواء، وأباد الأعداء".

قال: "ما صنعتم شيئا"؟

قالوا: "فمعاوية"، قال: "ولا هذا"، قالوا: "فعبد الملك بن مروان"، قال: "لا". قالوا: "فمن يا أمير المؤمنين"؟ قال: "عبد الرحمن بن معاوية الذي تخلّص بكيده عن سنن الأسنة، وظُبات السيوف. يعبر القفر، ويركب البحر، حتى دخل بلدا أعجميا. فمصّر الأمصار، وجنّد الأجناد، وأقام ملكا بعد انقطاعه بحسن تدبيره، وشدة عزمه. إن معاوية نهض بمركب حمله عليه عمر وعثمان، وذللا له صعبه. وعبد الملك ببيعة تقدمت له. وأمير المؤمنين بطلب عترته، واجتماع شيعته. وعبد الرحمن منفردا بنفسه، مؤيدا برأيه، مستصحبا عزمه".

لكن أتباع حافظ الوحش الذي غيّر اسمه إلى حافظ الأسد يرونه عظيما وقائدا فردا، سجدوا له وعبدوه، وأرغموا السوريين الثائرين على عبادته والسجود له، فقد لقب بالأسد كما لقب عبد الرحمن بصقر قريش. دخل بلدا عربيا، وهو أعجمي الأصل، كاكائي الدين، كما تقول شهادات جلال الطالباني، وأكثم نعيسة، وأحمد شهاب الدين، فنهض بمركب حملته عليه بريطانيا وفرنسا والدول الغربية، فغش صفو صناديق الانتخابات بكدر التزوير، وطيّف الجيش، وذلل سهله، وكسر عزم أهل الشام، وشردهم ومزقهم شر ممزق، وأنشأ الزلازل، وصنع الأدواء، ووطأ للأعداء.

أتباع حافظ الوحش الذي غيّر اسمه إلى حافظ الأسد يرونه عظيما وقائدا فردا، سجدوا له وعبدوه، وأرغموا السوريين الثائرين على عبادته والسجود له، فقد لقب بالأسد كما لقب عبد الرحمن بصقر قريش

- ومن الأشباه أن كليهما دخلا بلدين غريبين، الشام القريبة دخلها حافظ الأسد غير وحيد على مركب حزب البعث ونزعته الحقيقية الحزب القومي السوري فتنقع بالعروبة، أما الأندلس البعيدة فدخلها عبد الرحمن وحيدا، هاربا من بطش العباسيين، الذين قتلوا أمراء بني أمية بعد أن أمنوهم، فلم يبق منهم أمير سواه، فهرب منهم مدة ست سنوات عابرا الأقاليم حتى بلغ أخواله في المغرب.

- ولم تكن فرادة حافظ الأسد خالصة، فقد دخلها مجهول النسب على مركب البعث متنكرا بالنزعة القومية التي شاعت في زمنه، لابسا عدة الجيش، فقد كان طيارا حربيا، غدر بأصحابه، وباللجنة العسكرية الخماسية الطائفية خاصة، وبقائده صلاح جديد، وبرئيسه أمين الحافظ، فوطد لنفسه ولابنه من بعده. ويذكر له أنه دخلها وهو من دين غير دين الأغلبية، فقد تراجعت صبغة الدين وسادت النزعة القومية في زمنه.

- إن عبد الرحمن الداخل هو أبو المُطرَّف عبد الرحمن بن معاوية بن هشام بن عبد الملك الأموي القرشي (113-172هـ/ 731-788م) شريف النسب، ينتسب إلى سلالة النبي نفسه، فجدهما الأكبر هو عبد مناف. فرّ فراره من الشام إلى الأندلس في رحلةٍ طويلة استمرت ست سنوات، إثر سقوط الدولة الأموية في دمشق عام 132هـ/ 750م، وقيام العبَّاسيين بتتبُّع أمراء بني أمية وتقتيلهم. أما حافظ الوحش فمجهول النسب كما سبق القول، لكن رتبته العسكرية والحزب صنعت له نسبا.

- حكم وحش القرداحة الشام الأولى، عاصمة الأمويين، ثلاثين سنة، وحكم صقر قريش عاصمة الأمويين الثانية مدة مماثلة، وهي ثلاث وثلاثون سنة، وشتان بين الحكمين.

- حكمت أسرة وحش القرداحة نصف قرن، أما أسرة صقر قريش، فحكمت ثلاثة قرون ازدادت خمسة قرون أخرى هي مدة حكم المسلمين للأندلس، درة حضارات المسلمين، ومنارة أوروبا في عصور الظلام.

- جعل صقر قريش من الأندلس شاما في أوروبا، فنشر العلوم، وأضاء ظلمة العصور الوسطى الأوروبية، وعلّمها الطب والتشريع والأناقة والموسيقا وصناعة الدواء، فانتشرت في لغتها آلاف الألفاظ العربية.. أما وحش القرداحة، فعمل العكس؛ غرّب الشام ونفاها عن هويتها وشخصيتها، وجعلها متأخرة عن أخواتها العربيات عشرات السنين.

- لم يخلُ حكم وحش القرداحة الفردي الاستبدادي من تكدير، فقد ثار عليه الإخوان المسلمون في حماة وحلب، فبطش بهم، وبأطفالهم ونسائهم وشيوخهم، ودمر أحياءهم. ومن النظائر أن عبد الرحمن بن هشام بن معاوية أخمد ثورات كثيرة من غير بطش بأهل الثائرين أو تنكيل بغير الثائرين.

- إن توطيد الحكم لكليهما فيه أشباه ونظائر، استند وحش القرداحة على العلوية في حكم سوريا، واستند صقر قريش على اليمانية في وجه المضرية والفهرية.

- رفع وحش القرداحة شعار "الأسد إلى الأبد"، كتبه على كل جدار وحائط وحجر، أما شعار حكام الأندلس وملوكها، فكان "لا غالب إلا الله" على كل حجر.

- قدم وحش القرداحة أغلى بقعة سورية رشوة لتسنمه ذروة الحكم في الشام الأموية، وهي الجولان، تخلى عنها للعدو، أما مملكة صقر قريش، فكانت تتسع باستمرار حتى لم يبق في الأندلس سوى جيب صغير هي منطقة صخرة البلايو، زهدوا فيها، فكان فيها حتف الأندلس كلها.

- كان صقر قريش يقود المعارك بنفسه، خاض أول معركة ضد جيش الصميل، وانتصر عليه في معركة شقندة، ثم انتصر على يوسف الفهري والصميل بن حاتم في معركة المصارة، التي قادها بنفسه، إلى أن قضى على فتنتهما. أما الأسد فلم يقد معركة بنفسه، إنما من وراء الميكرفون.

- ترتبط باسم حافظ الأسد مجازر كثيرة، مثل حماة وحلب وحسر الشغور وأيلول الأسود، كان يأخذ البريء بالظالم، أما صقر قريش فلم يقتل سوى أعدائه.

- كان صقر قريش يخمد ثورة كل ثلاث سنوات أو أربع، سنة 143هـ ثار القاسم بن يوسف بن عبد الرحمن الفهري وحليف أبيه رزق بن النعمان الغساني في الجزيرة الخضرا عليه، ثم ثار هشام بن عروة الفهري صاحب طليطلة، ثم تركه لانشغاله بثورة العلاء بن مغيث اليحصبي الذي ثار عام 146هـ. وفي عام 149هـ ثار عليه سعيد اليحصبي في لبلة، ثم ثار أبو الصباح اليحصبي الذي نقم من عبد الرحمن أن عزله عن ولاية إشبيلية، سنة 153هـ. ثم ثار البربر بزعامة رجل يقال له شقيا بن عبد الواحد المكناسي، ثم ثار اليمانية بقيادة عبد الغافر اليحصبي وحيوة بن ملامس الحضرمي، ثم ثار ابن أخيه عبيد الله بن أبان بن معاوية وبعض معاونيه، محاولين الانقلاب عليه في قرطبة وهو متنزه خارجها.

ثم في عام 161هـ ثار عليه عبد الرحمن بن حبيب الصقلبي، وفي عام 164هـ ثار عليه الماحس بن عبد العزيز الكناني، والي الجزيرة، بعد ذلك بلغه ائتمار ابن أخيه المغيرة بن الوليد بن معاوية وهذيل بن الصميل بن حاتم به ليخلعوه، وسخط بسبب ذلك على أخيه الوليد بن معاوية، فنفاه هو وبنيه إلى المغرب، ثم ثار عليه أبو الأسود محمد بن يوسف بن عبد الرحمن الفهري عام 169هـ في قسطلونة. وفي عام 170هـ خرج الداخل لإخماد ثورة بربر نفزة، وهي آخر غزواته، وقد أخمد هذه الثورات كلها.

أما وحش القرداحة، فلم تكن من ثورة عليه حقيقية إلا من أخيه رفعت الأسد، وتعرض لمحاولة اغتيال، وكان أرفق من صقر قريش بابن أخيه فنفاه.

- ثار سليمان الأعرابي حاكم برشلونة ومعه الحسين بن يحيى الأنصاري، زعيم سرقسطة، على عبد الرحمن الداخل، فأرسل جيشا بقيادة ثعلبة بن عبيد الجذامي، فهزموا جيش الداخل وأسروا ثعلبة، وأرسل إلى شارلمان ملك "قارلة"، يدعوه للتحالف معهم، فعبر بجيشه جبال البرانس، وأغار على البشكنس في بنبلونة، لكنه انكسر ولم يُعد الكرّة. أما حافظ الوحش فقد خاض معركة مع إسرائيل في سنة 1973، وبالرجوع إلى هنري كسينجر ومايلز كوبلاند صاحب كتاب "لعبة الأمم" سنجد أنها كانت معركة تحريك وتحطيم للجيش السوري وقتل قادته الكبار السنّة، و"قرصة أذن" إسرائيل.

- توفي عبد الرحمن الداخل في 24 ربيع الآخر عام 172هـ، وترك أحد عشر ولدا منهم سليمان، وهو أكبر ولده، وهشام والمنذر ويحيى وسعيد وعبد الله وكليب، ومن البنات تسعا. وقد دفن في قصر قرطبة بعد أن صلى عليه ولده عبد الله. وخلفه من بعده ولده هشام الملقب بهشام الرضا بعهد من والده. وتوفي حافظ الأسد مخلفا خمسة من الأولاد، أربعة ذكور، أحدهم معاق، وبنتا، بعد أن عهد بالإمارة إلى ابنه بشار. وسوريا جمهورية وليست مملكة، لكنه أخرج الأمر إخراجا ظهر للعامة وكأنها بيعة بعد أن غُيّر الدستور حتى صار مناسبا لعمر الابن بشار!

- أعمال صقر قريش كثيرة أهمها: تأسيس جيش قوي، وإنشاء موانئ في طركونة وطرطوشة وقرطاجنة وإشبيلية. ومسجد قرطبة وقصر الرصافة في أول حكمه على اسم رصافة جده هشام بن عبد الملك في الشام، أحاطه بالحدائق الزاهرة التي جلب لها الغروس والزروع والنوى التي لم تكن من قبل في الأندلس؛ من الشام وأفريقيا. وفي عام 150هـ، أقام سور قرطبة الكبير، الذي حصّن به قرطبة، واستمر العمل به لأعوام. وفي عام 170هـ، أسس الأمير عبد الرحمن المسجد الجامع في قرطبة، وأنفق على بنائه 100 ألف دينار وقيل 80 ألف دينار. وكان المسلمون حين فتحوا قرطبة، قد شاطروا أهلها كنيستهم العظمى، فابتنوا فيها مسجدا. ولما كثرت عمارة قرطبة، ضاق المسجد على المصلين، فابتاع الداخل الشطر الثاني من النصارى بمائة ألف دينار، فأسس عليها الجامع، وأقام أسواره في عام، وأمر ببنائه على طراز المسجد الأموي بدمشق. وقد بلغت مساجد قرطبة في عهده 490 مسجدا. كما أنشأ دارا لسك العملة تضرب فيها النقود، مثلما كانت تضرب في دمشق في عهد بني أمية وزنا ونقشا.

بنى الأمويون حضارتين من أزهى الحضارات، وبلغ من مجد الداخل أن ممثلا سوريا أدى دوره فطمع في الترشح للرئاسة، أما حافظ الوحش، فترك الشام عاصمة الأمويين خرابا وأرضا يبابا، من غير فضيلة واحدة سوى فضيلة المقاومة والممانعة التي كانت مقاومة ضد حرية الشعب السوري واللبناني أيضا

أما الأسد، فلم يبال سوى ببناء أجهزة المخابرات المتنافسة على أذى السوري وطاعة الرئيس، وتردت العملة في عهده، فتردت قيمة الليرة السورية، ونقش صورته على الألف ليرة، حتى تردت إلى الحضيض في عهد ابنه، ولم تكن له موانئ أو أسلحة أو أبنية سوى حي مزة 86، وهو حي عشوائي بناه رفعت الوحش للعلويين الوافدين إلى العاصمة.

- أمّن صقر قريش الناس مسلمين ونصارى في عهد صقر قريش، أما حافظ الوحش، فأعلن عن نفسه حاميا للأقليات، وارتاع الشعب السوري بعامته، فأصبحوا يخافون من الصلاة في المساجد، وأعاد محاكم التفتيش الإسبانية إلى أقبية المخابرات ثم إلى الشوارع في عهد ابنه، وهي محاكم لم يُر مثلها في التاريخ بطشا وتنكيلا بالمسلمين، فهو عدو الأمويين والحضارة عموما، وقد رأينا حال المسجد الأموي في عهده، وحال نهر بردى الذي تحول إلى مجرور "غير صحي".

- نقش صقر قريش خاتمه: "عبد الرحمن بقضاء الله راض"، وقيل "بالله يثق عبد الرحمن، وبه يعتصم"، أما حافظ الأسد فعرف بأشهر ألقابه "إلى الأبد.. الأمين حافظ الأسد"، رفعها في منشآت الدولة كلها وشوارعها وأسوار ملاعبها.

- كان عبد الرحمن بن معاوية وافر العزم والدهاء والحزم والصرامة، وكان مع طباعه القاسية، يقعد للعامة ويستمع منهم، وينظر بنفسه فيما بينهم. وكان من عاداته أن يأكل معه من أصحابه من أدرك وقت طعامه، ومن وافق ذلك من طلاب الحوائج أكل معه. كما كان لين الجانب مع النصارى، يسير معهم بسياسة الاعتدال والمهادنة، فجعل لهم رئيسا يسمى "القُمص"، يقيم إلى جواره في قرطبة ويستشيره في كثير من الأمور. أما حافظ الوحش، فنأى بنفسه عن العامة والخاصة، بل إنه بخل على خاصته حتى بالصور وغاب كأنما في سرداب، يتمثل لنفسه صورة للإله الغائب الشاهد.

- كان عبد الرحمن شاعرا مجيدا، له شعر مشهور، منه هذه الأبيات التي تعبر عن شوقه لربوع الشام التي نشأ فيها، حيث قال:

أيها الركـب الميــمم أرضي
أقر من بعضي السلام لبعضي
إن جسمـي كما علمت بأرض
وفــؤادي ومـالـكيــه بأرض
قـدّر البيـــن بيننـا فافترقنا
وطوى البين عن جفوني غمضي
قد قضى الله بالفراق علينا
فعسى باجتمـاعنا سوف يقضي

أما حافظ الوحش، فاستأجر الشعراء يعوضونه عن أصله بقصائد المدح، مثل الشاعر الجواهري ونجم الدين صالح وسواهما.

بنى الأمويون حضارتين من أزهى الحضارات، وبلغ من مجد الداخل أن ممثلا سوريا أدى دوره فطمع في الترشح للرئاسة، أما حافظ الوحش، فترك الشام عاصمة الأمويين خرابا وأرضا يبابا، من غير فضيلة واحدة سوى فضيلة المقاومة والممانعة التي كانت مقاومة ضد حرية الشعب السوري واللبناني أيضا.

x.com/OmarImaromar
التعليقات (0)