من المؤكد أن أسوأ ما يمكن أن يحدث في علاقة بموضوع مثير للجدل مثل "لازار غايت"، المتعلق باختيار وزير التنمية والاستثمار والتعاون الدولي لبنك فرنسي-أمريكي لـ"المساعدة" في المخطط التنموي، هو مناقشة الموضوع بشكل شعبوي. ومن الواضح أن الوزير وحزبه "أفاق" (المشارك في التحالف الحكومي) يعتمد على بعض الانتقادات الشعبوية للتملص من سلبيات الموضوع.
سأضع على جنب هنا كل المؤشرات على الإخلالات الإجرائية، بما فيها ذلك التي أشارت إليها منظمتان وازنتان تفهمان في القانون، هما: الاتحاد العام
التونسي للشغل والهيئة الوطنية للمحامين في بيانات رسمية، بما أدى لانسحاب اتحاد الشغل من استشارات مخطط التنمية. في المقابل سنناقش أصول الموضوع والأهم البدائل، بما يتجاوز هذا الموضوع تحديدا للحديث في إشكالية أساسية، تتعلق باستلاب الإرادة الوطنية للتفكير الاستراتيجي الاقتصادي، والارتهان إلى إرادات وتعليمات الخارج، وكيف أننا بصدد "سوق دراسات" تختلط فيها مصالح المال بالسياسة. وبمعنى آخر: هل نحن بصدد خيانة استراتيجية؟
ما هي المهمة المفترضة لـ"بنك لازار" المطلوبة من وزارة التنمية والاستثمار حسب الوثائق؟ هل هي مجرد "تسويق" لسياسة نقررها أم توجيه وصياغة للمخطط والسياسة الاقتصادية نفسها؟ من الواضح أن الوزير نفى الكثير من الأشياء التي فندتها الوثائق (مثلا أن البنك معني بـ"إعادة الهيكلة"، وأنه لم يدخل في أي نقاش مع البنك قبل شهر أكتوبر). ولهذا سنعتمد أساسا على ما تمضنته الوثائق. أهم الإشكالات تتعلق بما يلي:
-مهام البنك حسب مشروع العقد في صياغته النهائية (كما هو مقترح من البنك لكن بناء على مراسلات بين الطرفين ترجع إلى شهر جويلية على الأقل، وبالتالي ليس بناء على تخمينات البنك) ليس مجرد "التسويق" كما ردد في البداية الوزير، بل هي "تحديد السياسة الاقتصادية المعتمد في مخطط النهوض"، و"تحرير تقرير الميزانية الاقتصادية"، و"صياغة خطط برامج قطاعية"، و"تحديد الإصلاحات الأساسية الضرورية لتحسين مناخ الأعمال"، و"تقييم حاجات تمويل مخطط النهوض". وهذا يعني أنه لا يوجد في تونس من يستتطيع القيام بذلك.
-تم منح البنك صلاحية تنظيم مؤتمر مارس 2016 لجلب
الاستثمارات، وأيضا والأهم إقامة صندوق تنمية لتونس، كأنه لا يوجد أي طرف أو كفاءة في تونس للمساهمة في إحداث صندوق مماثل.
-في حالة الخلاف فان التحكيم بين الدولة التونسية وبنك لازار يتم وفقا للقانون الفرنسي وليس التونسي.
هذه المقاربة متماهية مع مؤشرات أخرى تتعلق بطريقة تسيير الوزير للوزارة، حيث عزل عديد المديرين العامين وجعل أحد مقرات الوزارة بمنزلة مكان لتجميد وقبر عدد من كفاءاتها. أيضا لم يقم بالاستعانة بمركز دراسات محترم تابع لوزارته وهو "المعهد التونسي للقدرة التنافسية والدراسات الكمية". في المقابل جلب فريق عمل خاص به (أغلبه من أعضاء حزبه)، وطلب من مؤسسة أممية وأخرى ألمانية تعيين خبيرين على كل ولاية لقيادة مناقشة المخطط التنموي. يعني ما يقوم به الوزير هو تهميش طاقات إدارية وبحثية عملت على مخططات سابقة للتنمية وتعرف الميدان وتعويضهم من خرج الإدارة بخبراء، ليس لهم أي تجربة في إعداد مخططات ولا يعرفون الميدان.
لكن من الخطأ اعتبار أن ما قام به وزير الاستثمار خطيئة غير مسبوقة. الحقيقة هو عمق مشكلا قائما أساسا.
هناك خلل واضح في مقاربة التفكير الاستراتيجي في تونس؛ إذ إن المراكز العمومية التي يمولها عمليا دافع الضرائب ومعنية أساسا بتقديم رؤية استراتيجية وطنية، تحكمها معايير محلية وتعكس المصلحة العامة، هي مراكز معطلة عمليا ومهمشة. في المقابل اندفعت الدولة منذ عقود وبالتوافق مع المؤسسات المالية الدولية إلى تفويض أمر الدراسات الاستراتيجية لمراكز دراسات خاصة أجنبية، ولا يتعلق الأمر بالتسويق فحسب، بل بالتحرير والتخطيط وتحديد الأولويات. والمفارقة أن باحثين تونسيين هم الذين يساهمون بشكل أساسي في القيام بها، لكن تحت إشراف، والأهم توجيهات دولية أجنبية.
وبنك لازار الاستثماري من بين المؤسسات الأساسية المعنية بـ"سوق الدراسات" هذا. وسمعته ليست الأفضل بالتأكيد. كتاب "آخر الأسياد: التاريخ السرّى لشركة الإخوة لازار وشركائهم" (The Last Tycoons: The Secret History of Lazard Freres & Co) الذي تم نشره سنة 2007 من أحد الموظفين السابقين الكبار فيه، وكان من بين الكتب الأكثر انتشارا تلك السنة في الولايات المتحدة، يشرح تاريخ البنك حيث تبرز صورة مؤسسة تخلط بين النفوذ السياسي والمالي، وأيضا قريبة من المؤسسات المالية الدولية كالبنك الدولي وصندوق النقد الدولي، حيث كأنها في شبكة رديفة داعمة لها. فتقديم البنك على أنه مخبر استثنائي للكفاءة عابرة للقارات، وأنه محايد عن أي مصالح هو من باب السذاجة. والأكثر إهانة للذكاء الطبيعي هو الاستشهاد بدور هذا البنك في مصر مثلا، حيث يغرق نظام السيسي في وضع يشارف على الإفلاس.
أشير هنا أيضا إلى أن البنك يسعى أيضا للتحكم في عمليات إعادة جدولة
الديون. وهنا يمكن أن أتحدث لأول مرة على حادثة شهدتها بشكل مباشر. إذ سبق له محاولة الاتصال بكتلة حزب المؤتمر، التي كانت تدفع في اتجاه التدقيق في الديون التونسية خلال عهد الاستبداد. ففي أواخر سنة 2012 أرسل أحد ممثلي البنك مراسلة لعرض المساهمة في حل مشكل "الديون الكريهة"، خاصة لدى فرنسا، ومشددا على ضرورة أن يتم ذلك "بشكل سري". وهو ما أثار لدينا شكوكا كبيرة خاصة بسبب العلاقة الخاصة التي تربط مالكي بالنك بالرئيس الفرنسي آنذاك؛ مما دفعنا إلى تجاهل هذا العرض.
اعتبر البعض ما قام به وزير الاستثمار أقرب إلى "الخيانة". الحقيقة ليس الأمر بهذه البساطة. المشكل أكبر بكثير ويسبق ما قام به وزير الاستثمار، الذي عمق مشكله بغروره وتكبره الواضحين. الأمر يتعلق بسيرورة ترجع لعقود سابقة في استلاب الإرادة الوطنية في التفكير الاستراتيجي، بإشراف أجنبي ومساهمة محلية تونسية. وهكذا نحن بصدد خيانة استراتيجية تتحملها أجيال سياسية وليس مجرد "خيانة" ظرفية بالمعنيين السياسي والقانوني.