تتصف كتابات وإسهامات المفكر الإسلامي الباكستاني،
فضل الرحمن (1919– 1988) بإحداثها قطيعة تامة مع المرجعية الأصولية التي أرسى قواعدها الإمام محمد بن إدريس الشافعي، في كتابه التأسيسي "الرسالة". فأصول الاستدلال في منظومة فضل الرحمن ليست هي ذات الأصول المقررة هناك، بل مفارقة لها وخارجة عليها.
يقلص فضل الرحمن مصادر المرجعية الإسلامية، ليحصرها فقط في القرآن الكريم، وفق قراءة جديدة تتلاءم مع روح العصر ومتطلباته،. ولا تحفل قراءة فضل الرحمن الجديدة بالسنة النبوية، كما أنها تتعاطى مع إنتاجات الفقهاء بحسب سياقاتها الزمانية والمكانية، والتي تغاير أحوال زماننا، ما يعني فقدانها لصفة الإلزام كأحكام فقهية مرجعية ملزمة لسائر المسلمين في قادم الأيام.
في هذا الكتاب (
الحداثة والإسلام.. من خلال كتابات المفكر الإسلامي الحداثي فضل الرحمن) يغوص الدكتور دونالد بيري، أستاذ الفلسفة والأديان في الجامعات الأمريكية، في أعماق رؤية المفكر فضل الرحمن، باعتبارها نموذجا متقدما للتعاطي الإسلامي مع الحداثة، ومقارنا لها برؤية مفكر إسلامي شهير هو مولانا (أبو الأعلى المودودي)، مؤسس الجماعة الإسلامية بباكستان، والتي تمثل الموقف الأصولي من الحداثة وكيفية التعاطي معها.
فضل الرحمن: التكوين والمسار
تُظهر ترجمة المفكر فضل الرحمن، أنه نشأ في بيئة دينية تقليدية، ونال حظا وافرا من التعليم الديني، وحفظ القرآن الكريم في صغره، ودرس الفقه الإسلامي والحديث وعلم الكلام، وألم بالعلوم والفنون الشرعية المختلفة، لكنه كان كذلك دارسا للفلسفة، وقد توسع في دراستها بعد سفره إلى بريطانيا لإكمال دراسته في جامعة أكسفورد، التي نال منها شهاداته العليا.
وكعادة علماء الدين الذين ينفتحون على الدراسات الفلسفية ويتوغلون في حقولها، والتي غالبا ما تحدث لهم صدمة معرفية، فإن فضل الرحمن حدث له الشيء ذاته "حيث عاش صراعا شخصيا قويا بين دراسته الحديثة، ودراسته الدينية".. يقول فضل الرحمن: "من أواخر الأربعينيات حتى منتصف الخمسينيات، اختبرت شكوكا حادة سببتها لدي دراسة الفلسفة، لقد حطّمت معتقداتي التقليدية".
حصل فضل الرحمن على شهادة الدكتوراه في الفلسفة من أكسفورد سنة 1949، وبدأت مسيرته التعليمية في جامعة "دور هام" حيث حاضر في الدراسات الفارسية والفلسفة الإسلامية من 1950 إلى 1958، وبعد رجوعه إلى باكستان أصبح مديرا لـ"المعهد المركزي للأبحاث الإسلامية". كانت مهمته في المعهد تفسير "الإسلام بعبارات منطقية وعلمية لتلبية مقتضيات مجتمع تقدمي حديث".
وبسبب اصطدام أفكاره وتفسيراته الدينية (الحداثوية)، ومقترحاته المختلفة في المجالات الاجتماعية والاقتصادية، مع المنظومة الدينية التقليدية، فقد واجه صعوبات كبيرة، وقوبلت كتاباته وإسهاماته بردود فعل ساخطة، أجبرته على الاستقالة من عمله، والاضطرار إلى مغادرة باكستان والسفر إلى الولايات المتحدة الأمريكية، والتي عمل في جامعاتها أستاذا إلى حين وفاته عام 1988.
تمحورت مادة هذا الكتاب البحثية كما يصفها المؤلف حول "نقطتين اثنتين: معضلة النزعة الدينية التقليدية في سياق الحداثة، وعرض حياة وفكر أحد أهم الباحثين الإسلاميين في القرن العشرين، والتي تعكس مقاربة للدراسات الإسلامية تحاول وصف الظاهرة كما تبدو من الداخل".
تضمن الفصل الأول من الكتاب – بحسب عرض المؤلف لفصول كتابه - تعريفا "بالمشاكل المرتبطة بالحداثة وتسليطا للضوء عليها بوصفها مسألة حوارية مشتركة بين التقاليد الدينية كافة". واستعمل المؤلف معضلات الحداثة الخمس التي تحدث عنها "بيتر برغر" كأنموذج لاكتشاف التحديات المعاصرة التي تواجهها النزعة الدينية التقليدية في الزمن المعاصر. وخصص المؤلف الفصل الثاني لعرض وشرح جوهر الدعوة التي أطلقها فضل الرحمن من أجل "إعادة اكتشاف القرآن" و"إعادة بناء الإسلام" على ضوء التفسير القرآني.
أما الفصل الثالث، فيقدم ردا "نيو ـ أصوليا" على الحداثة من خصم عنيف اللهجة أحيانا، عاصر فضل الرحمن في باكستان، وهو السيد أبو الأعلى المودودي. يسلط هذا الفصل الضوء على الاختلافات بين المودودي وفضل الرحمن اللذين يمثلان النقاش الدائر حاليا في البلدان الإسلامية في محاولتها التعامل مع الحداثة. واحتوى الفصل الرابع والأخير على عرض معضلات الحداثة كمشكلة كونية، ويكشف كيف ساهم فكر فضل الرحمن في المسائل المتعلقة بها.
لماذا "فضل الرحمن"؟ وما هي الحداثة؟
لماذا وقع اختيار المؤلف على المفكر الإسلامي فضل الرحمن، كنموذج للدراسة من بين المقاربات المتعددة للتعاطي الإسلامي مع الحداثة؟ وفقا للمؤلف فإن فضل الرحمن "اكتسب موقعا فريدا من خلال تفسيره الإسلام للحكومة الباكستانية، ولاحقا مزاولته مهنة التعليم في العالم الأكاديمي في أمريكا الشمالية، وقد كان شغوفا بتوفير حلول عملية للمعضلات التي تطرحها الحداثة، وكان لديه شغف أيضا بالنص القرآني، ما أتاح له أن يشكل جسرا بين التفكير في الأبراج العاجية من جهة وبين البراغماتية غير المطلعة من جهة أخرى... لقد أتاحت له براعته الفكرية وتعبده المطلق بفهمه للقرآن، التعامل مع الحداثة، بصراحة وصدق خشي كثيرون التعبير عنهما".
بين يدي عرض أفكار فصول الكتاب ومناقشة مضامينها، تناول المؤلف الاختلاف الواسع حول تحديد معنى ودلالة "الحداثة"، حيث رأى أن "محاولة اكتشاف تعريف مقبول من الجميع للفظة "حداثة" صعبة جدا .." كما يشكل "التوصل إلى تعريف مقبول من الجميع للفظة "حداثة" أو اكتشافه، مهمة شاقة، لأنها استعملت بطرق عدة، وغالبا ما تُستخدم تبادليا مع مجموعة من العبارات ذات الصلة مثل: تحديث، وعلمنة، وأنسنة، وحداثوية، وعلمانية، وعلوم إنسانية..".
من التعاريف الواضحة للحداثة – من خارج الكتاب – ما عبر عنه أحد الباحثين بقوله: "يرتكز المفكرون عادة في تعريف الحداثة إلى فكرتين أساسيتين، هما: فكرة الثورة ضد التقليد، وفكرة مركزية العقل"، ويعرف الكاتب والأديب المصري الحداثة بكلمات مختصرة بأنها "تعني الإبداع الذي هو نقيض الاتباع، والعقل الذي هو نقيض النقل".
الحداثة تحدّ أم تهديد؟
بنى فضل الرحمن قراءته الجديدة الرامية إلى فهم آخر للمعارف الدينية، على منهجية مغايرة تماما لما هو مقرر وثابت في "التقليدية الدينية الإسلامية"، فبحسب المؤلف فإن فضل الرحمن "دعا إلى إعادة اكتشاف رسالة القرآن التاريخية والمنهجية والسياقية كي يتمكن الإسلام المعاصر من الاستجابة للحداثة بإيمان حيوي وديناميكي".
يصف الدكتور دونالد بيري المهمة التي تصدى فضل الرحمن للقيام بها، والتي "تشمل إعادة الإعمار، تطوير فقه قرآني سياقي يستند إلى تحقيق تاريخي ومنهجي في التقليد: هذه المقاربة ثورية جدا، وتختلف جذريا عن المقاربات المعتمدة بشكل عام حتى الآن، لناحية أنها تُخضع الفقه وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، بل القرآن أيضا، لدراسة محض تاريخية، وأن معظم الحداثيين، وليس التقليديون فقط، يترددون في قبولها".
ويضيف المؤلف: "اعتبر فضل الرحمن أنه على الرغم من أن تطوير فقه قرآني سياقي لإعادة بناء الإسلام ينطوي على مخاطر، فإنه لا بد من إنجاز هذه المهمة، لأن مستقبل الإسلام في تعامله مع الحداثة منوط بها. لقد أصبح المسلمون إلى حد كبير أسرى مخلوقاتهم التاريخية، سواء كانت قوانين أم مؤسسات،... علينا أن نتجاوز الجزء الأكبر من الإسلام التاريخي ونعيد اكتشاف الإسلام الحقيقي الحاضر، دائما وبصورة ملموسة في القرآن ومبادئه الأخلاقية، إنه التحدي الذي ينبغي على المسلمين مواجهته، بما يصب في مصلحة الجنس البشري بكامله".
من الواضح أن مقاربة فضل الرحمن للحداثة ترتكز على التحرر من إرث الإسلام التاريخي، وتصديه لإنتاج معارف دينية جديدة تستند إلى فقه قرآني يتلاءم مع روح العصر ومتطلباته، ما يعني إحداث قطيعة تامة مع المنظومة الأصولية وإنتاجاتها الفقهية، لذا كان فضل الرحمن جريئا في مقترحاته وتأويلاته في ما يخص مسائل اجتماعية كالطلاق والزواج والإرث (دعا إلى التساوي بين الرجل والمرأة في الإرث) وكذلك في مسائل اقتصادية كرأيه في الربا والفوائد وإباحته للفوائد البنكية لمغايرتها مفهوم الربا القرآني وفقا لقراءته.
تلك الجرأة في النظر، وسعيه الحثيث لإعادة بناء المعارف الإسلامية من جديد، وشغفه الدائم باكتشاف رسالة القرآن من داخله وبالتجاوز التام لـ"المصادر التقليدية"، أقامت عليه قيامة العلماء والفقهاء في زمانه (من يسميهم بعلماء التقليدية الدينية)، فاتهموه بالتغريب والانسلاخ من الدين والوقوع في شراك العلمانية، والتأثر بالثقافات والفلسفات الغربية.
تُظهر وجوه المفارقة بين نموذج فضل الرحمن في تعاطيه مع الحداثة، وبين نموذج مولانا (أبو الأعلى المودودي.. الممثل للنموذج الأصولي الإسلامي) أن الأول ينظر إلى الحداثة باعتبارها تحديا، بينما يراها الثاني تهديدا، ما ينتج عنه اختلاف جذري في طبيعة التعاطي مع الحداثة.. فمن رآها تحديا فإنه يجتهد في الاستجابة الإيجابية له بما يتطلبه من قدرة على التكيف، وإعادة البناء والتشكيل.. ومن رآها تهديدا فلا بد أن يحشد كل قواه وقدراته لمواجهة ذلك التهديد وقهره والتغلب عليه.