اختفى عبد الفتاح
السيسي، لمدة ثلاثة أيام ومنذ وقوع أحداث
سيناء، وظهر بدون إعلان مسبق في سيناء بملابس عسكرية، وقد حرص على كتابة اسمه، ورتبته، وموقعه كرئيس وكقائد أعلى للقوات المسلحة، على صدره، وكأن هناك من ينازعه ذلك، وكأنه لم يصدق بعد أنه رئيس، وأنه قائد أعلى، وأنه مشير، وأن اسمه "عبد الفتاح السيسي"!
المذكور، ذكرني ببعض الأشخاص الذين كانت تدفع بهم أجهزة الأمن لإثارة نزاعات داخل الأحزاب، فيحرص المتنازع، على أن يطبع "كروت" باسمه وصفته الحزبية الجديدة، وبأنه رئيس الحزب "الفلاني"، حتى يصدق نفسه، ويصدق من حوله ذلك بالإلحاح. لكن اللافت هو كتابة السيسي لاسمه، وهو أمر لا ينازعه عليه الرئيس محمد مرسي، فلم يعلن تحالف دعم الشرعية أن مرسي اسمه "عبد الفتاح السيسي"، يبدو أنه خشي أن يختلط بالضباط، فيحسبونه واحدا منهم، فحرص على كتابة الاسم والبيانات، ونسي أن يكتب رقم الهاتف الجوال. وربما خشي من أن يظنوا أنه "جندي مجند"!.
كان من المفترض أن يظهر "عبد الفتاح السيسي"، عقب الحرب التي دارت بين الجيش
المصري في سيناء وجيش "أبو بكر البغدادي"، ليطمئن الناس بأن سيناء بالفعل تحت السيطرة كما قال عقب ظهوره. وكان من المفترض أن يشارك في جنازة عسكرية للشهداء كما كان يحدث في كل مرة يتعرض فيها جنودنا للقتل، حيث تقام لهم جنازة عسكرية مهيبة، يختمها السيسي بتصريحات تتراوح بين العنترية والليونة، قبل أن يتم إرسال الجثامين للدفن في بلادهم وهناك تقام لهم جنازات شعبية. وفي آخر جنازة خلدت الشاشات تمنياته الخالصة بأن يكون هو من قُتل بقوله: "يا رب كنت أنا"!.
في هذه المرة اختفى السيسي، ولم تقم جنازات عسكرية، وشاهدنا بعض الجنازات الخاصة ببعض الشهداء في قراهم، ولم يزر السيسي المصابين في المستشفيات، فقد قام بهذه المهمة وزير الدفاع صدقي صبحي، وعندما عقد مجلس الأمن القومي اجتماعه لم يحضر السيسي، و"الغائب حجته معه"!
السيسي ظهر بعد غياب في سيناء، بدون سابق إعلان، وكان ينبغي أن يخبر أنصاره عن سر هذه "الغيبة"، والتي من الملاحظ أنه قضاها متأملا، وبعد حالة التأمل كان قراره بالعودة للزي العسكري، مع أنه في آخر مرة ظهر به أعلن أنها الأخيرة، لكن لا بأس، فهو لم يصدق في وعد قطعه من قبل ليصدق هذه المرة!.
في بيان الانقلاب الذي كتبه "هيكل"، قال السيسي إن الجيش ليس راغبا في سلطة أو في حكم، ثم استولى على السلطة، وجعل من الجيش حزبه السيسي، وكان بيان المجلس الأعلى للقوات المسلحة باعتماده مرشحا بعد استقالته، سقطة كبرى، إذ كانوا يخفون في أنفسهم ما الله مبديه، بالقول إن ما جرى في 3 يوليو لم يكن انقلابا، فإذا بترشح السيسي وبيان المجلس ما جعل من الأمر أكثر وضوحا، فلم أعد أبذل جهدا كما كنت أفعل في بداية الانقلاب، للتأكيد على أن ما حصل كان انقلابا عسكريا على أول رئيس مدني جاء باختيار الشعب صاحب السيادة.
من الواضح، أن الحنين هو ما دفع السيسي للعودة للزي العسكري، وربما كان ما فعله بناء على نصيحة من "هيكل" المغرم بأجواء الستينيات، فاته أن عبد الناصر وبعد هزيمة 1967، ومع أن مصر كانت في حالة حرب مع اسرائيل لم تنته، وخاض جيشها حرب الاستنزاف، لم يدفعه هذا للتمسك بالزي العسكري، وقد فعلها السادات في فترة حرب أكتوبر، وظل يفعلها في العرض العسكري من كل عام، وكان يجاريه في ذلك نائبه مبارك، والذي لم يعد بعدها للبدلة العسكرية أبدا ولمدة ثلاثين عاما، مع أنه خاض حربا ضروسا ضد الإرهاب!.
السادات، كان في زيه العسكري، يريد القول أنه شرعيته من هناك، ومن الانقلاب العسكري في 1952، عندما كانت الانقلابات العسكرية لا تمثل جريمة أخلاقية، وكانت عنوان هذه المرحلة، فضلا عن أن السادات يبدو مغرما بالأزياء، فيرتدي البدلة، والجلباب البلدي، والزي العسكري الذي كان متجاوزا من حيث الشكل لفكرة البدلة العسكرية، إذ كان مرصعا بلوحات معدنية، وعلامات، وألوان. كما كان يحرص على حمل عصا المرشال، دون أن يكون هذا له علاقة بالتقاليد العسكرية المصرية.
السيسي جاء بعد ثورة مدنية، استهدفت بناء دولة على أنقاض حكم العسكر، ولأنه ينتمي للمؤسسة العسكرية وجاء منها لكرسي الحكم، فقد كان أنصاره يحرصون على التأكيد بأن صفته العسكرية انقطعت بخلعه للزي العسكري، وسمعت من أحد المتحدثين التلفزيونيين من يقول وفي أكثر من مداخلة أن السيسي رئيس مدني، والدليل أنه استقال من الجيش، وارتدى البدلة المدنية، فأضحك بما قال الثكالى. لكن حتى الشكل لم يستطع أن يحافظ عليه وعاد للزي العسكري، ليؤكد أنه حاكم عسكري جاء بانقلاب، وكانت صورته في سيناء لا تخطئ العين دلالتها، ويسري عليه بيت الشعر القائل:
ويُقضى على المرء أيام محنته *** حتى يرى حسنا ما ليس بالحسن!
لكن أنصاره أقاموا له "زفة" لذلك، وهي "زفة" تنصب سواء ارتدى الزي العسكري، أو ارتدى فانلة "النادي الأهلي"، فقد أقاموا له زفة" عندما استقل دراجة، وظلت برامج "التوك شو"، تناقش في ليال طوال "الدروس المستفادة من ركوب الرئيس العجلة"، ومن مقدمي البرامج من قال إنها رسالة من سيادته للتوصل لفكرة "معملية فذة" لحل أزمة الاختناق المروري، ثم نسي الجميع بمن فيهم السيسي نفسه الدراجة ودروسها المستفادة!.
في تفسيرهم لهذه الخطوة الجبارة، يقول أنصار السيسي إنها ترمز لدخوله الحرب ضد الإرهاب، وكأنه بدونها لا يمكنه دخول الحروب، مع أننا شاهدنا كيف خاض الرؤساء الأمريكيون الحروب الجادة، ومع ذلك لم نشاهد بوش أو غيره بالبدلة العسكرية تعبيرا عن دخوله الحرب.
سيقولون، لأن ليس من تقاليد الحروب أن يرتدي الحاكم المدني الزي العسكري، فهذا خاص بالحكام العسكريين.. وهذا ما نريد أن نتفق عليه: السيسي حاكم عسكري!.
أرجو ألا يقال لنا إن البدلة العسكرية تستمد شرعيتها من أنه القائد الأعلى للقوات المسلحة، فهذا منصب سياسي، كمنصب الوزير، فليس شرطا أن يكون وزير الدفاع العسكري عسكريا!
وتبقى القضية الأهم بارتداء السيسي للبدلة العسكرية، التي ظهر سعيدا بها، ليذكرني بانتظارنا صغارا افتتاح المدرسة، ليس حبا فيها، ولكن استعجالا لارتداء "المريلة"، ومنا من كانت تسيطر عليه العجلة فيرتديها ليلة بداية العام الدراسي وينام فيها!.
الأهم، هو أنه بما ارتدى أكد أن مصر في حالة حرب مع الإرهاب، أي أن الإرهاب من القوة بمكان بحيث دفع رئيس الدولة للعودة للبدلة العسكرية، فأي استثمار يمكن أن يأتي لبلد دخلت حزام الحروب؟!.
ما علينا، لقد اختفى السيسي، ولم يعلن سبب اختفائه لمدة ثلاثة أيام، وعندما ظهر بعدها كان وسط قوات الجيش في سيناء، وبالزي العسكري، لشحذ الهمم، وليؤكد أنه الرجل القوي، ألم يعلن من أيدوه أنه "الدكر" القادر على تحقيق الأمن الذي لم يحققه مرسي؟. وقد ظن بهذا الظهور القوي أنه سيغني عن الإجابة عن سؤال أين كان في الثلاث سنوات الماضية؟!
لكن الصورة، مثلت رسالة سلبية تماما، فالرجل وهو يؤكد ببدلته انتماءه للمؤسسة العسكرية، اصطحب معه حرسه الخاص بأعداد لافتة، متفوقا على حذر مبارك، الذي كان يجد "أمانه" وهو وسط قيادات الجيش، ولا أظن أن الحراسة كانت ظاهرة وهو يصلي العيدين مع رجال القوات المسلحة!
بيد أن حراسة السيسي كانت لافتة، وقد صوبت مدافعها في اتجاه رجال الجيش في رسالة كاشفة عن حجم الخوف الذي يسيطر على الرجل، وعدم ثقته في أحد وإن كانت هي المؤسسة العسكرية التي يدعي أنها حزبه!.
المدافع المصوبة في اتجاههم حملت إهانة كبرى، فلم يكن السيسي هو القوي الذي غطى ظهوره بهذه القوة على سؤال اختفائه، لكن طرح أسئلة أخرى عن عدم وجود وزير الدفاع معه؟.
والسؤال الأهم: "أين يجد السيسي الأمان"؟!
[email protected]