كتاب عربي 21

الفنكوش كأداة سلطوية

أنس حسن
1300x600
1300x600
لا شيء يجلب التعاسة لشعوب منطقة الشرق الأوسط مثل تاريخها القريب المتمثل في الحكومات العسكرية المتعاقبة التي لم تلبث أن حولت حياة الشعوب إلى حالة خاصة من الانحطاط الحضاري والاقتصادي والعلمي والاجتماعي، وهذا واقع مُشاهد وحالة ملموسة، إلا أن هذه التعاسة دائمة "التولد" والتجدد ولها طريقتها في تثبيت أركانها مجتمعيا، وهذه المعادلة هامة جدا لاستمرار وتعاقب الحكومات العسكرية، فلأجل الاستمرار في السلطة لا بد للسلطة من توليد روايتين منطقيتين لإقناع الجماهير بالاستمرار في "الدعم" أو "الإستسلام" للسلطة. 

الرواية "الأولى" وهي صيغة "الحرب/العدو" وهي أول ما يتم إنتاجه في أي حكم عسكري في بدايته، فلا شيء يجعل تصدر "العسكري" للحكم مبررا ومنطقيا في ظل وجود السياسيين والقيادات الجماهيرية والحركات السياسية والأحزاب إلا حجة "الأمن" و فوبيا "الإنهيار" ويجب على العسكري إن أراد الوصول لكرسي السلطة أن يجعل حالة الإنهيار قريبة وملموسة في حياة المواطن العادي لكي يكون صعوده "مبررا" ومفهوما، ولذلك فإن كل حركات الانقلابات العسكرية كانت على مرحلتين، الأولى هي تهيئة بيئة الانقلاب ذاتها في الشارع عبر تهييج الجماهير على السلطة المنقلب عليها والأوضاع المنقلب عليها، وافتعال الفوضى والاضطراب، وشوهد هذا في انقلاب يوليو 53 وقد اعترف أركانه بتورط عبدالناصر في حريق القاهرة الذي سبقه، وإشاعة الفوضى.

وهذه مقدمة منطقية، فلو أننا في قرية يقطنها أساتذة الجامعة والأطباء والعلماء والمفكرين وأولو المشورة والوجاهة، فلن تكون وظيفة "الغفير/العسكري" بها أكثر من تأمين كل هؤلاء فهذه هي وظيفته الحقيقية، وطبيعة الحياة أن يسير هؤلاء أمور القرية بينما يحرس هذا الغفير أمورهم، ولا يستطيع هذا "الغفير" أن يتفوه بكلمة في أمور هؤلاء العلماء والوجهاء، فهو في النهاية لا يدرك سوى أمور القتال والحراسة. لكن إذا ما أراد هذا الغفير أن يتصدر كل هؤلاء فليس أمامه إلا تضخيم وظيفته لتصبح هي مركز اهتمام القرية عبر افتعال الخطر والاتفاق مع اللصوص لمهاجمتها ونشر الفوضى والخوف، وقتها فقط يأتيه الأستاذ الجامعي والطبيب والعالم وذو الوجاهة ليركعوا تحت قدمه طالبين الآمان!! 

أما الرواية "الثانية" فهي "الفنكوش"، أي ترويج الأمل الكاذب الذي يوصف بكونه "مشروعا قوميا" ليس من حق أحد مناقشته في ظل حالة "الحرب/العدو". وبما أن المشاريع القومية تحتاج إلى مدة كبيرة للدراسة والمناقشة والأخذ والرد لتصحيح الخطأ بها ولأنها ستستنزف الموارد فلا بد من التأكد من سلامتها ، إلا أن الحكم العسكري لا ينظر لها من هذه الزاوية، فبعد تثبيت صيغة الحرب الداخلية والخارجية ونمط (معنا/ضدنا) يحاول العسكري تثبيت معسكره بالأمل "الكاذب" الفنكوش للتغطية على الآثار المدمرة لحروبه الداخلية والخارجية، ثم يتم ربط صيغة التنمية والتحول الحضاري هذه بمدى زمني يمنح السلطة العسكرية هامش تحركات وتدمير أوسع، فأي معارضة للمشروع سيكون معناها الوقوف بوجه سفينة الوطن، وأي تسرع للحكم على المشروع بالفشل ستكون محاولة تعطيل لسفينة التقدم!! 

ومهما كانت سخافة المشاريع ومدى مخالفتها لأي معطيات عقلية أو اقتصادية أو علمية، فلن يستطيع أحد الوقوف أمام ماكينات الدعاية السلطوية وكتائب الهجوم الخاصة بها، فصيغ التخوين والتخويف والتهديد حاضرة لكل من ينتقد ولو بكلمة هذا "الفنكوش"، فالفنكوش هو العمر الحقيقي للحكم العسكري، هو المبرر الحقيقي لاستكماله فترات الحكم، فصيغة الحرب والعدو لن تطول كثيرا وبعدها يتساءل المواطن عن الإنجاز، والإنجاز منعدم، ولذلك يستعيض عنه بفكرة "الوهم" و"الأمل الكاذب" الذي مكنه من فرض سلطته لسنوات بمشروعية "الفنكوش" وإتمامه.. 

لن تجد عزيزي أي حكم عسكري في العالم لم يعتمد مثل هذه الصيغ، ومع كل فشل لـ"فنكوش" يتم استحداث "فنكوش" جديد ولا تفيق الشعوب على حقيقة هذه "الفناكيش" إلا بعد عقود زمنية هي مرحلة كافية للتأكد من فشل وكذب السلطة العسكرية، وحينها يكون العالم قد قفز قفزات كبرى في عقود التخلف العسكري التي نعيشها، ووقتها نفيق على فجوة أكبر من تلك التي وضعنا بها الحكم العسكري منذ 53 إلى اليوم. فلم تنته فناكيش "عبدالناصر" حتى أطعمونا فناكيش "السادات"، ولم يلبث أن يموت حتى أسلمونا لثلاثين عاما من "الفنكوش" الخاص بالعسكري "مبارك".. وهكذا يسلمها اليوم لـ"السيسي"، وها هو يعدنا بـفناكيش تفوق فناكيش ناصر والسادات ومبارك.. فهل علينا أن ننتظر 30 عاما أخرى ليكتشف هذا الشعب حقيقة فنكوشه "الأكبر"؟ 
التعليقات (2)
مصري
السبت، 21-03-2015 05:18 م
تقصد طبعا يوليو 1952 و ليس 1953
الخميس، 19-03-2015 06:46 ص
الله أكبر عليك. ?فوض فوك .

خبر عاجل