الفجور في
الخصومة والتجرد من قيم نزاهة الاختلاف آفة بشرية تعتري كل إنسان يتخلى عن إنسانيته ويستسلم للغرائز الحيوانية والبدائية في التشفي والانتقام. وهي آفة نفسية تعتري المصابين بنزعات السادية والتلذذ بإيذاء الآخرين.
وتربط الأدبيات الإسلامية بين الفجور في الخصومة وبين النفاق، بعَدّ الفجور علامة من علامات المنافقين، كما ورد في الأثر النبوي، ولهذا الاعتبار الشرعي تفسيرات علمية في المعرفة البشرية؛ فالفاجر في الخصومة يعيش حالة من الفصام النفسي بين ضميره الإنساني وبين مشاعره الانتقامية التي تتغلب عليه، فيكذب ويطعن في الأعراض، ويستسلم لغرائز الثأر البدائية، وإن كان ذا سلطة استسلم لغرائزه السادية في التعذيب والإيذاء لمخالفيه والمعترضين على نهجه والمطالبين بالإصلاح.
وهذا الفجور يعكس تشوهاً أخلاقيا وانحرافا قيميا ينفر منه كل عاقل سليم الحواس مرهف الإحساس، ولو كان من غير المسلمين.
و القرآن الكريم يعلمنا في كثير من آياته كيفية إنصاف الخصوم، وعدم الخروج عن منهج العدل معهم، مهما كانت العداوة والكراهية: "يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون"، "ولا يَجرِمنَّكم شَنَئانُ قومٍ أن صَدوكُم عن المَسجدِ الحرامٍ أن تَعتَدُوا".
الانسياق وراء فجور الخصومة يدمر القيم
الإنسانية، لتحل محلها غرائز الانتقام الحيوانية والرغبات الثأرية البدائية، وتغيب قيم وأخلاقيات العدالة، ويستسلم الإنسان للحيوان الذي يلتبسه، فيتخلق بأخلاقه.
فالإنسان في الفلسفة القرآنية، كما أنه مفطور على الخير في ضميره
الأخلاقي، فإنه مفطور كذلك على نوازع الشر والفجور عندما تطلق حيوانيته العنان لهرمونات إنسان الغاب الهمجية: {فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا }..
والفجور في الخصومة درجات، أهونها الشتيمة، وقد يتجاوز الناس للشاتم شتيمته مالم تنطوي الشتيمة على اتهام كاذب أو إفك أو قذف.
فالكذب والإفك والتضليل بتلفيق الأكاذيب وتضليل المجتمع جناية أخلاقية ودينية وإنسانية يرفضها الدين والقانون والأخلاق الإنسانية، وتمجها الأعراف الاجتماعية النبيلة.
وما يزال الفاجر في الخصومة يتدرج في فجوره من الشتيمة بغير حق إلى الكذب والافتراء والإفك، حتى يصل إلى مرحلة شاذة يدفعه فيها الفجور إلى مضايقة خصومه في أرزاقهم ومشاعرهم، ويحرمهم من حقوقهم الطبيعية، ويعتقل من لا ذنب له من الأطفال والنساء للنكاية بذويهم من خصومه المطالبين بالإصلاح، الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر ..
وما ارتفاع وتيرة الانتهاكات، التي تشهدها الإمارات في الآونة الأخيرة، إلا نماذج ماثلة للعيان للفجور في الخصومة، بواسطة المبالغة في العقوبات التي تفرضها على الناشطين الحقوقيين والإصلاحيين المعتقلين منهم والمقيمين خارج الدولة.
لقد تجاوزت هذه الانتهاكات كل الحدود المعقولة، وبدأت تأخذ أشكالاً هستيرية متعددة. فالفجور امتد في طغيانه على أهالي المعتقلين، ليحرمهم من إكمال الدراسات العليا في الجامعات الحكومية، والمنع من السفر ومنع توصيل الكهرباء لمنازلهم الجديدة وتجميد الحسابات البنكية، ومنع التوظيف ومنع تجديد الرخص التجارية. وأما عند زيارة ذويهم في السجون فلا تحصى مظاهر الانتهاكات في حقهم، فمن التفتيش المهين أثناء زيارة المعتقلين إلى منع الزيارات الخاصة، مروراً بمعاناة الانتظار وقد تلغى الزيارة دون أسباب.
هذه الانتهاكات تنفذ على أطفال ونساء المعتقلين الذين يدفعون ثمناً باهظاً لممارسة أقاربهم بعض حقوقهم في التعبير عن تطلعاتهم ومطالبهم المشروعة قانونا ودستوراً. وأخيراً تجاوزت الانتهاكات جميع الخطوط الحمراء باعتقال الشقيقات الثلاث، أخوات معتقل الرأي الدكتور عيسى السويدي، فجورا لم يتصور أن يحدث، وتدشينا لمرحلة جديدة من الانتهاكات الخطيرة والعقوبات غير الأخلاقية.
لقد تنبهت المنظمات الحقوقية الدولية منذ وقت مبكر لتصاعد هذه الجرائم الإنسانية، وصدرت البيانات التي تدين الأساليب الرخيصة التي ينتهجها المتنفذون في جهاز الأمن، وأرسلت تلك المنظمات رسائل تستفسر فيها عن أوضاع الأهالي، وتطلب زيارتهم، لكن عدم الإجابة وتجاهل الموضوع هو الإجابة الوحيدة من قبل الأجهزة الأمنية. وبسبب تلك الممارسات الفاجرة في خصومتها أضحت الدولة مخالفة للاتفاقيات التي وقعت عليها والصادرة من الأمم المتحدة في حق الطفل والمرأة.
إن الفجور في الخصومة الذي تعدى كل المبادئ الأخلاقية والأعراف المجتمعية في الإمارات، والذي شهدت عليه المؤسسات والمنظمات الحقوقية لَشاهدٌ أن هناك من يرمي إلى هدم كيان الدولة بممارسات تخلق شرخاً بين الشعب وقيادته وبين فئات المجتمع، وهذا ما لا تحمد عقباه، وعلى العاقل أن يفهم ويتنبأ بالقادم.