كتاب عربي 21

"الإرهاب" والمقاومة والتصنيف

محمد هنيد
1300x600
1300x600
من الثابت الأكيد أن مصطلح "الإرهاب" سيشغل الفضاء العام للخطاب الإعلامي العربي، في ما تبقى من العشرية الثانية من هذا القرن، ولا نكاد نشك في أنه سيشغل العشرية القادمة باعتباره مصطلحا سياسيا وإعلاميا مركزيا في كل مستويات الخطاب الصادرة عن الأجهزة الرسمية العربية أو الوافدة إليها. 

هذا المصطلح لا يشتغل منفردا بل يشكل مع تحالف اصطلاحي جديد شبكة متماسكة من التسميات التي ترفد القيمة الدلالية لمصطلح الإرهاب. 

فنعت "الجهادي" و"السلفي" و"التكفيري" و"الأصولي" و"المتطرف" و"المتشدد"، تمثّل الروافد الأساسية لمصطلح الإرهاب، وتشكل معه مجموعة حلقات متناسقة ترسخ قيمة المعنى الصادم له لكن الإطار الأهم لمصطلح الإرهاب، حسب الوسم الإعلامي الغربي له هو الدين الإسلامي ليصبح الإرهاب "إرهابا إسلاميا"، والجهادي "جهاديا إسلاميا"، بما ينزع ضمنا الصفة عن الديانات والمعتقدات الأخرى كالمسيحية واليهودية.

اليوم يتصدر الخطابَ الإعلامي الغربي والعربي على حد سواء المركّبُ الإضافي "محاربة الإرهاب" باعتباره أولوية الأولويات للنظام العالمي الجديد. هذا النظام العالمي الجديد يتمثل في مجموع التصورات والأفعال وردود الأفعال التي أعقبت الربيع العربي وموجاته المفاجأة التي نجحت في إسقاط الأنظمة الاستبدادية العربية وأنظمة الحراسة على ثروات الأمة وخيراتها البشرية والطبيعية.

لكن من ناحية أخرى، ولهول الصدفة، لم نعثر على تعريف واحد للإرهاب والإرهابيين، ولم نظفر بتحديد يتيم لعلاقته بمصطلحات ومفاهيم مجاورة كمفهوم المقاومة مثلا، باعتباره حقا من حقوق الشعوب المستعمَرة وفي مقدمتها الشعب العربي في فلسطين وهو يعاني إرهاب العصابات الصهيونية منذ أكثر من نصف قرن.  

عدم تقديم مفهوم دقيق للإرهاب وللسلوك الإرهابي ليس بريئا وإنما يخفي استثمارا كبيرا للمصطلح وللمفاهيم الناسلة عنه والمحيطة، به لأن حصر الدلالة يمنع تداخل المفاهيم ويحول دون تقاطع حقول الدلالة والمتاجرة بالفوضى الاصطلاحية من أجل تقنين النهب المنظم لثروات الأمم التي عجزت نخبها عن حمايتها من الإرهاب الإعلامي الاستعماري المنظم.

اليوم يخطو استثمار مصطلح الإرهاب خطوة جديدة عندما يتلون بألوان الثورة المضادة ويقاطع في حركة نادرة مصطلح المقاومة إلى درجة يكاد فيها يتجاوزه وقد أنشئ الأول "الإرهاب" للقضاء على الثاني "المقاومة" عبر آلية أخطر هي آلية التصنيف.   

قد يبدو التصنيف الأمريكي أو الصهيوني للإرهاب باعتباره جوهر العملية التواصلية لهذه الكيانات في حربها الإعلامية والعسكرية على العرب وعلى الدول العربية مفهوما في إطار النزعة التوسعية والاستعمارية لهذه الدول، لكن أن تتبنى الدول العربية التصنيف وما ينتج عنه فأمر مثير للريبة والاستغراب. 

التصنيف الأخير لكتائب الشهيد "عز الدين القسام"  تنظيما إرهابيا من طرف القضاء المصري "الشامخ" مؤشر بالغ الدقة في تطور السلوك السياسي العربي الرسمي من مكوّن المقاومة، وهو ما يوحي بأن القضاء على رغبة الشعوب العربية في التحرر والكرامة يمر أساسا عبر شيطنة نزعات المقاومة وربطها بالإرهاب وبالفوضى وبالقتل والذبح.  

التصنيفات الأخيرة والصادرة كلها عن المحور القديم المسمى بمحور "الاعتدال العربي" تكتسي لونا سياسيا خطيرا أقرب إلى شيطنة الخصم السياسي منها إلى محاربة فزاعة الإرهاب المصطنعة، لأنها جاءت ردا على ثورات الربيع العربي التي كانت ثورات سلمية بامتياز عكست رقي الشعوب العربية ونبذها للعنف حيث واجهت بصدور عارية إرهاب دولة الاستبداد.  

تطرح مسألة التصنيف من جهة أخرى جملة من الأسئلة حول التصنيف في حد ذاته ثم جهة التصنيف والمصنَّف.  

فالتصنيف أنواع لعل أشهره وأكثره وقعا على الأمم والشعوب هو التصنيف الائتماني الذي تصنف به اقتصاديات الدول، وخاصة النامية منها من أجل تسهيل نهب ثرواتها ووضعها ضمن قائمة الدول الفاشلة أو التصنيف السياسي مثل "محور الشر" أو "الدول المارقة" أو "التنظيمات الإرهابية" وهو تصنيف وظيفي، بمعنى أن التصنيف في حد ذاته ليس إلا الواجهة الناطقة للخلفية المسكوت عنها وهي أهم من التصنيف ذاته.
  
فإحدى الدول الخليجية الراعية للانقلابات الأخيرة في دول الربيع العربي قدمت في منتصف هذه السنة تصنيفا هو الأغرب من نوعه للمنظمات الإرهابية في المنطقة العربية، فضمت القائمة علماء وجمعيات خيرية لا علاقة لها بالنشاط السياسي إطلاقا، بل إنها توازت مع إدراج أحد أهم المرجعيات السنية على قائمة المطلوبين للإنتربول في حين يتجول الجلادون العرب في كل العواصم العربية والغربية بكل حرية. 

التصنيف اليوم للإرهابي وغير الإرهابي ومنوال القوائم الذي يذكر بلوائح المطلوبين في ثقافة الغرب الأمريكي زمن رعاة البقر، ليس إلا شكلا جديدا من أشكال الحرب على الأمم والشعوب من أجل نزع الشرعية عنها قانونيا وجماهيريا.

فقوائم "حسن السلوك الأمريكية" ترفع العلامة وتخفضها حسب الطلب وحسب ولاء المصنَّف واستجابته لإرادة الشركات العملاقات واللوبيات السياسية المرتبطة بها عربيا وأمريكيا. الأنظمة العربية الاستبدادية وجدت ضالتها في هذه التصنيفات منذ القرن الماضي، من أجل تصفية معارضيها وتحقيق هدفين، أولهما تقديم شروط الولاء والطاعة للإمبراطورية الأمريكية، وثانيها شيطنة الخصم المهدِّد لتأبد الاستبداد ولمصالح دولة العصابات عبر إبقائه تحت القصف و تصفيته إعلاميا.
   
الخطير في هذه التصنيفات وفي الدول الاستعمارية الراعية لها أنها تنكر علنا جرائم الأنظمة الاستبدادية العربية، كتلك المرتكبة في حق الشعب السوري أو في حق المتظاهرين العزل في مصر والتي تستحق فعلا أن تصنف ضمن خانة "إرهاب الدولة" الذي لا يقل خطرا ووحشية عن جرائم العصابات الصهيونية ضد الشعب العربي في فلسطين المحتلة.

فكأن الإرهاب يعمى عن جرائم الاستبداد العربي كما عميَ قبل ذلك عن جرائم رعاة البقر في العراق وفي غيرها من بقاع العالم بما يسمح لهذا اللون من الإرهاب بالتمدد وخلق كل المناخات الملائمة للتطرف والعنف المانع لقيام دولة الحرية والكرامة التي طالب بها وعي جماهير الربيع العربي باعتباره المستهدف الأول والرئيسي من الحرب العالمية على الإرهاب.
التعليقات (0)

خبر عاجل