تصاعدت الضغوط على رئيس الوزراء
العراقي نوري
المالكي للتنحي عن منصبه حتى وصلت حدا لا يحتمل.. فالسنة والأكراد بل أبناء طائفته من الشيعة، بالإضافة إلى إيران القوة المؤثرة في المنطقة، والولايات المتحدة، جميعهم يطالبون برحيله.
ووضع المالكي في حساباته أنه ربما سينال فرصة للبقاء في السلطة بعد قضائه ثماني سنوات في منصبه، على الرغم من نفاد صبر حلفائه الذين راقبوا بقلق تقدم المقاتلين المتشددين لتنظيم الدولة الإسلامية، واجتياحهم للقوات الحكومية التي انهارت أمام تقدمهم في مناطق واسعة من غرب وشمال العراق.
وكانت خطة رئيس الوزراء الشيعي للبقاء في السلطة ستتطلب منه إقناع المرجع الشيعي الأعلى في العراق، بأنه وحده القادر على إصلاح وتوحيد البلاد التي انزلقت عائدة إلى حرب أهلية، جراء ما يصفها منتقدوه بأنها سياسات طائفية.
وقال وزير عراقي ومصدر مقرب من آية الله العظمى علي السيستاني، إن المالكي أرسل قبل أسبوع وفدا من
حزب الدعوة الذي يرأسه، في محاولة للقاء السيستاني في مدينة النجف، جنوبي بغداد.
ولم يوضح المصدران ما إذا كان أعضاء الوفد نجحوا في الاجتماع مع الإمام الشيعي المنعزل البالغ من العمر 83 عاما، ولكنهم حصلوا على رد مكتوب وإن لم يتضمن ما أمل المالكي في الحصول عليه.
وقال الوزير لرويترز "أوضح السيستاني أنه يريد التغيير. لقد عبر عن رأيه كتابة، وهي المرة الأولى التي يقوم فيها المرجع الشيعي الأعلى بمثل هذا الأمر".
وكلمة السيستاني هي بمثابة أمر بين غالبية الشيعة في العراق، ولهذا يمكن القول إن مصير المالكي-الذي كان شخصية مغمورة لدى مجيئه إلى السلطة عام 2006 بمساعدة الاحتلال الأمريكي حينها- بات محسوما.
ويرأس المالكي حكومة تصريف أعمال منذ الانتخابات البرلمانية غير الحاسمة، التي جرت في أبريل/ نيسان الماضي، ويبدو أن فرصه في نيل ولاية ثالثة استنفدت مع تعيين زميل له في حزب الدعوة كرئيس وزراء مكلف بدعم من الداخل والخارج.
وفي الوقت الذي كان المالكي يتمسك فيه بمنصبه، كان اللاعبون الأساسيون في العراق وخارجه يمضون قدما للبحث عن بديل له.
وخلال هذه العملية طرح على طاولة البحث عدد من الأسماء، بينها أحمد الجلبي، الشيعي العلماني والمتحدث اللبق، الذي لعب دورا في أقناع الأمريكيين بالإطاحة بنظام صدام حسين عام 2003.
كما طرح اسم إبراهيم الجعفري رئيس الوزراء العراقي السابق الذي تولى المنصب قبل المالكي مباشرة، ولكنه سبقه أيضا إلى الفشل في تهدئة العنف الطائفي خلال تسلمه مقاليد الحكم لعام واحد.
وقال مطلعون على مسار المباحثات إن نائب رئيس مجلس الوزراء حسين الشهرستاني -وهو عالم نووي ذاق التعذيب في سجون صدام- كان أيضا مرشحا واعدا.
خيار آمن
ولكن المسؤولين قالوا إن الاختيار انحصر في نهاية الأمر بين نائب الرئيس العراقي، خضير الخزاعي، ومساعد المالكي السابق
حيدر العبادي، وهو نائب رئيس مجلس النواب.
وينتمي كلا المرشحين إلى حزب الدعوة، لكن الخزاعي اعتبر ذو توجهات طائفية حادة تشبه كثيرا سياسات المالكي، فوقع الاختيار على العبادي، إثر توافق جميع الأحزاب على أن هذه الشخصية المقلة في الظهور الإعلامي تتماشى بشكل جيد مع قادة الأقلية الكردية، وهي تحظى بفرصة كبيرة لإرضاء المسلمين السنة، الذين دفعهم اشمئزازهم من تصرفات المالكي إلى الانضمام إلى مقاتلي الدولة الإسلامية.
كما بدا العبادي خيارا ملائما لرجال الدين وغيرهم، لأن المهندس العراقي لم يكن حافزه الوحيد الطموح السياسي، إذ أمضى أكثر من عقدين في المنفى عاملا في مجال الأعمال في بريطانيا، بينما كان يروج للتعاليم الإسلامية لحزب الدعوة.
وقال حكيم الزميلي وهو حليف برلماني لرجل الدين الشيعي القوي مقتدى الصد، إن الجميع قرر أن ما جرى حتى اليوم أكثر من كاف، وإن المالكي يحول العراق إلى نظام دكتاتوري ويقوض ديمقراطيته، وبدأ صبر الناس بالنفاد، وإن هذا الشعور العام وصل إلى مداه مع غزو مقاتلي الدولة الإسلامية للبلاد.
وأضاف "لقد عبر الأئمة عن رأيهم في خطب صلاة الجمعة وأرسلوا الوفود إلى بغداد للضغط على الشيعة من أجل التغيير".
وعاد العبادي إلى العراق، بعد سقوط صدام الذي أعدم اثنين من إخوته، وانتهى به الأمر كمستشار للمالكي وهو رئيس للوزراء ووزير للاتصالات.
كما استند قرار اختيار العبادي إلى رغبة جميع الأحزاب في اختيار خليفة للمالكي لا يكون تابعا له. فخلال توليه منصب رئيس الوزراء عين المالكي أشخاصا موالين له في مناصب نافذة في جميع مؤسسات الدولة.
وانطبقت جميع المواصفات المطلوبة على العبادي، فعلى الرغم من كونه عضوا في حزب الدعوة فهو لم يكن ضمن دائرة المقربين من المالكي، وبالتالي فإن اختياره لن يقصي التيار الشيعي الرئيسي وفي الوقت نفسه لن يعطي المالكي -كما يأملون- فرصة ليحكم من وراء الستار.
وارتكب المالكي غلطة أساسية عندما أبعد حلفاءه الشيعة، وخصوصا حليفته القديمة إيران، بالإضافة إلى تهميش السنة، وإغضاب الأكراد بالوقوف حجر عثرة في طريق تحقيق الحلم الذي عملوا لتحقيقه منذ زمن طويل.
ولا يعد العبادي شخصية استفزازية تستعدي بقية الشركاء، ولهذا فقد بدا مرضيا للجميع، بدءا من القادة في طهران ورأس الحوزة الشيعية في النجف وصولا إلى المدن والبلدات السنية التي اعتمد تنظيم الدولة الإسلامية على مناهضتها للشيعة لكسب تأييدها.
وتحول المالكي إلى شخصية مثيرة للشقاق، إلى حد خشي معه البعض من أن يتسبب في صراع بين الشيعة أنفسهم، مما قد يؤدي إلى شرذمة البلاد أكثر.
وقال عضو في البرلمان من الائتلاف الشيعي الرئيسي "لقد اختار الشيعة العبادي ووافق عليه الأئمة الشيعة لأنه ليس من دائرة المقربين من المالكي وهذا يعني أن المالكي لن يتمكن من السيطرة عليه في المستقبل. كان العبادي الشخصية الأكثر قبولا لدى جميع الأحزاب بينهم السنة والأكراد وهذا سيساعد بالتأكيد على تهدئة التوتر الطائفي الذي طفا على السطح."
إيران صديقة المالكي القديمة تغير موقفها
رأت إيران -وهي الحليف الداعم للمالكي منذ زمن طويل- أن الوقت قد حان للابتعاد عنه والبدء بالبحث عن بديل.
كانت ايران مثل عدوتها الولايات المتحدة تراقب عن كثب تقدم الدولة الإسلامية في شمال العراق، متوجسة خيفة من احتمال امتداد أعمال العنف عبر الحدود.
وقال مسؤول إيراني رفيع إن المسؤولين الأمريكيين والإيرانيين أجروا مناقشات بشأن الشخصية التي يمكن أن تنقذ العراق، المصدر الرئيسي للنفط.
وقال المسؤول: "أجرى الإيرانيون والأمريكيون محادثات حول المرشحين المحتملين لخلافة المالكي، وبعد ثلاث جولات من المحادثات على الأقل، اتفقوا على العبادي".
وأضاف: "إنه شيعي، ونظرا لحساسية الوضع في العراق، والحاجة الماسة لتشكيل جبهة سياسية موحدة، وافقت إيران على إقناع الجماعات الشيعية بدعمه، وشارك في هذه الجهود عدد من أئمة النجف، كما ساهموا في حشد الدعم للعبادي".
من جهته نفى مسؤول أمريكي أن تكون واشنطن -التي شنت غارات جوية على مقاتلي الدولة الإسلامية- حاولت ان تدفع بالعبادي إلى مقاليد السلطة، وقالت إن اسمه طرح عبر القنوات السياسية العراقية.
وقال المسؤول الذي طلب عدم الكشف عن اسمه: "نحن لا نقود هذه المهمة، وقد قال لنا السعوديون -وهم أيضا مؤثرون في المنطقة- إنهم لن يفعلوا أي شيء للعراق ما لم يكن العراق راغبا في ان يفعل شيئا لنفسه.. لقد نفد صبرهم من المالكي".
وقال مسؤول إيراني آخر رفيع المستوى إن الزعيم الأعلى الإيراني آية الله علي خامنئي وافق على العبادي، بعد مناقشات طويلة مع سبعة من مستشاريه.
وقال المسؤول الإيراني الرفيع المستوى: "في الوقت الحالي العبادي هو خيار جيد ولقد تكلمنا مع مختلف الأحزاب الشيعية في العراق ونأمل أن ينجح".
وقال الوزير العراقي إن السيستاني اتصل بخامنئي قبل أسابيع، لتمهيد الطريق لاختيار رئيس وزراء عراقي جديد.
وقال الوزير: "لقد طلب من ايران أن تقبل بخيار الشعب العراقي في اختيار قائد لهم، ووافق الإيرانيون على ذلك."
ودعا السيستاني الذي يفضل لعب دور من خلف الستار العراقيين إلى حمل السلاح ضد الدولة الإسلامية. وهو مثل كثير من العراقيين يخشى أن تصب التوترات الطائفية في مصلحة الجهاديين السنة، الذين يعتقدون ان الشيعة كفار يجب قتلهم.
وفي خطب الجمعة، حث السيستاني مرارا قادة العراق على عدم التمسك بمناصبهم، في إشارة واضحة إلى المالكي الذي دفع الناس لمقارنته بصدام، الرجل الذي خطط ضده لسنوات من المنفى.
ومن وراء الستار استخدم السيستاني نفوذه لدفع السياسيين الشيعة للتخلي عن المالكي. وفي النهاية لم يعد رفض طلب الإمام الشيعي الذي يجله الملايين مقبولا.
وقال أعضاء في الائتلاف الشيعي الرئيسي إن السياسيين الشيعة رضخوا في النهاية، وأرسلوا وفدا لمقابلة السيستاني قبل ثلاثة أسابيع لسؤاله عن المزيد من التوجيهات المحددة.
وقال سياسي عراقي شيعي كان يعمل لصالح اختيار العبادي "لم يكن الأمر سهلا، كانت مهمة صعبة للغاية. لقد بتنا محرجين فعلا وتحت ضغط المؤسسة الدينية واستمرار الأئمة بالضغط علينا، ولهذا بات لزاما علينا الامتثال. لقد تخطى الأمر حدود السياسة. لقد بات تكليفا".
وفي النهاية فان موقف السيستاني الحازم بالإضافة إلى دوامة من الضغوط -بينها الخوف من ان تحقق الدولة الإسلامية المزيد من المكاسب بين مؤيديها السنة وتنفيذ تهديدها بالتقدم نحو بغداد- دفع بستة أعضاء في الائتلاف الشيعي الوطني للتحرك فعقدوا اجتماعا ووافقوا رسميا على العبادي الذي كتب في خانة اقتباسه المفضل على صفحته على موقع فيسبوك للتواصل الاجتماعي عبارة "المفتاح إلى القيادة الناجحة هو التسامح".
وقال أحد أفراد الائتلاف الوطني "لقد وضعنا مسودة القرار ووقعنا عليها، ثم سلمناها للرئيس فؤاد معصوم الذي كلف العبادي بتشكيل الحكومة على الفور".
واليوم يراقب ملايين العراقيين إلى جانب الولايات المتحدة وايران وغيرهما من القوى المؤثرة في المنطقة مثل السعودية وتركيا، ما اذا كان هذا الرجل هو الذي سيتمكن من احتواء الدولة الإسلامية، وإنهاء عمليات الخطف والتفجيرات اليومية والإعدامات الميدانية.
أما بالنسبة للمالكي، فتوقعاته متشائمة للبلاد التي تتعرض وحدة أراضيها للخطر.
وقال سلام المالكي وهو شيخ بارز من العشيرة التي ينتمي إليها رئيس الوزراء العراقي إنه تحدث معه وهو قلق، ويعتقد أن العراق سيتحول إلى دولة فاشلة ودولة ميليشيات.