مقالات مختارة

سذاجة النظرة الأميركية إلى العالم

آرون ديفيد ميلر
1300x600
1300x600
كتب آرون ميلر:

أوضحت الأزمة الأوكرانية أن هناك بعض الحقائق الحيوية عن تاريخ العالم وجغرافيته لا يفهمها الأميركيون حقاً. وبينما يحاول العالم استيعاب تحركات الرئيس الروسي فلاديمير بوتين المتحدية ويفكر في تحركات روسيا المستقبلية، والقوى الأخرى الأصغر، نتحدث هنا عن عدد من الأمور في علاقة الولايات المتحدة بروسيا وهذه القوى الأصغر التي يتعين على الأميركيين أن يستوعبوها لأن فهم توجهاتها حيوي وضروري في اللحظة الراهنة.

وأميركا جزء من العالم، ولكن هل تفهم هذا بالفعل؟ فالولايات المتحدة التي تقع بين قوى غير متنمّرة في الشمال والجنوب وتصطاد الأسماك من الشرق والغرب، فقدت القدرة، إن كانت امتلكتها أصلاً، على التفكير والشعور بأنها قوة من قوى العالم وبالتالي فهي عرضة لعوامل التاريخ والجغرافيا. وقد يعتقد المرء أن خبرات أميركا في العراق وأفغانستان قد جعلتها أكثر حكمة وابتعاداً عن المغامرات عندما يتعلق الأمر ببناء أمة أو التدخل في شؤون القوى الأصغر. ولكن هل جعلت هذه التجارب الأميركيين أكثر حكمة في معرفة السبب الذي تتصرف به هذه القوى أو جعلتهم أكثر مهارة في توقع أفعالها وردود أفعالهم؟ لا أعتقد هذا.

فبعض الناس في الولايات المتحدة قد لا يكون لديهم الذكاء ولا الاستعداد لهذا. فالأميركيون لم يعيشوا قط على حافة القلق من الوجود المادي أو السياسي، ولا يشعرون بضخامة أو وطأة القوة الكبيرة حول أعناقهم. ولا تسيئوا فهمي فهذا شيء جيد وخاص للغاية. فليست لدى الكثير من الأمم مثل هذه الرفاهية. ولكن هذه الخصوصية جعلت الأميركيين أقل براعة أيضاً في فهم سلوك الآخرين الأقل حظاً وقوة. فالأميركيون في الحقيقة لا يفهمون مخاوف الآخرين ويستخفون بها ويرونها منقطعة الصلة إلى حد كبير عن عالمنا المعاصر. ولا يعرف الأميركيون فيما يبدو ولا يهتمون كثيراً بالمفاهيم التي تعود فيما يبدو إلى القرن التاسع عشر أو حتى القرن العشرين مثل الكبرياء والشرف والاعتزاز الوطني وما إلى ذلك، على الأقل بنفس درجة شعور بعض الدول الأخرى بذلك. ومن المؤكد أن الأميركيين يتحمسون لدورة الألعاب الأولمبية ولكنهم لا يغضبون فيما يبدو أو لا يشعرون بالإهانة أو التقليل من شأنهم عندما تتجاهل دول في ربع حجم الولايات المتحدة وبقوة أقل منها بكثير، تحذيرات أميركا وتراوغها وتتحداها دون عواقب أو كلفة لهذا. فلا أرى حماساً كبيراً في الولايات المتحدة لمواجهة الروس مثلاً في سيفاستوبول ناهيك عن خاركوف.
 
ولابد أن تقع واقعة كبيرة مثل تفجيرات الحادي عشر من سبتمبر حتى يتحرك الأميركيون. ولذا فعندما يتصرف بوتين أو رجال الدين في إيران بطريقة لا تساهم بشكل إيجابي في عالم الأميركيين جيد التنظيم، أو عندما يتحدثون ضد الولايات المتحدة دفاعاً عن كبريائهم الوطني أو من باب الغضب الشخصي أو الوطني، يرى الأميركيون أنها تصرفات زائفة ومفتعلة سياسياً ومنفصلة بدرجة ما عن الواقع، أو لا صلة لها بما قد يعتبر مصلحة مشروعة. فلمجرد أن الأميركيين ليس لديهم الكثير من المصالح الحيوية في قضية ما فهذا لا يعني أن الآخرين ليست لديهم مثل هذه المصالح. والمصالح الحيوية هي تلك التي تجعل أمة ما مستعدة لأن تنفق الوقت والثروة والنفوذ لتخاطر في نهاية المطاف بحياة مواطنيها والآخرين لتحقيقها. والمصالح الحيوية الأميركية مقتصرة حالياً في المقام الأول على الدفاع عن الوطن الأم.

ولكن بالنسبة للقوى الأصغر، ينسى الأميركيون في الغالب أن حماية الأراضي قد تعني ما هو أكثر، فالهجوم هو أفضل طريقة للدفاع كما يقولون. وقد لا يكون غريباً للغاية أن الولايات المتحدة لم تتوقع استيلاء بوتين على القرم. فالأميركيون لا يتخيلون أنهم قد يفعلون شيئاً مشابهاً. فلماذا يغامر الروس بانتهاك سيادة دولة أخرى؟ ألمجرد قلقهم من اقتراب أوكرانيا من الغرب؟ لماذا يغامر رجل براجماتي مثل بوتين باتفاقات الجغرافيا السياسية التي تم التوصل إليها بشق الأنفس بعد عام 1991؟ والأميركيون لا يستطيعون فهم هذا لأنهم لا يستطيعون أن يضعوا أنفسهم في موضع الآخرين، ليروا ما قد يعتبره باقي العالم شأناً حيوياً على أنه كذلك. فلا يكفي مجرد أننا في القرن الحادي والعشرين ليرى الجميع العالم بنفس الطريقة. وأحد الأسباب التي تجعل أميركا تسيء الحكم على القوى الأصغر هو أنها تزعم بشكل ما أن كل الدول ترى العالم بنفس الطريقة، أو على الأقل هي مستعدة لتتكيف مع الطريقة التي ترى بها الولايات المتحدة العالم. ويحرك هذا التصور وهمٌ خطير هو أن العالم اليوم أكثر حداثة وعولمية وتجانساً، وأن الدول لا تتصرف بطريقة قد تقوض مصالحها الاقتصادية.

وفي إشارة إلى تحريك بوتين لقواته في أوكرانيا، قال وزير الخارجية الأميركي جون كيري «إنه حقاً تصرف من القرن التاسع عشر يحدث في القرن الحادي والعشرين». وربما يكون هذا صحيحاً، ولكن لنفكر في الأمر بطريقة أخرى. فربما يكون بوتين زعيما من القرن الحادي والعشرين ويستخدم فعلاً آليات القرن التاسع عشر لأنها ما زالت تجدي نفعاً، وهذا يتطلب أحياناً أعمالاً لا تتفق والمعايير الأميركية.

وقد تكون هناك مبالغة في القول إنه لا شيء يعيش في أميركا لأكثر من 15 دقيقة ولكن الأميركيين لا يلتفتون كثيراً إلى التاريخ وعندما يفعلون فإنهم يستخدمونه عادة للدفاع عن بعض توجهات الأحزاب في السياسة الخارجية أو للتوصل إلى استنتاجات خاطئة. وبالنسبة لقوة كبيرة ترغب في التعلم، فمن الممكن أن يكون استقراء التاريخ تدريباً مفيداً للغاية في التواضع وتوخي الحيطة، أي أن يكون عبرة تحذيرية للكف عن المغالاة وادعاء الإحاطة بكل شيء علماً. باختصار يعتقد الأميركيون أنهم يفهمون العالم ولكن انفصالهم عنه ومثاليتهم وسذاجتهم وعجرفتهم والبراجماتية مطلقة العنان التي يتسبب فيها هذا الانفصال تفصح عن شيء آخر. وكي تؤثر الولايات المتحدة في العالم بشكل مختلف وأكثر جدوى يتعين أن تتغير نظرتها إليه.

آرون ديفيد ميلر
كاتب وباحث في مركز ودرو ويلسون الدولي

(الاتحاد الإماراتية)
التعليقات (0)