كشفت التّغطية
الإعلاميّة الغربيّة التي أعقبت
الهجوم على عدد من اليهود في شاطئ بوندي الأسترالي؛
عن قدرٍ كبيرٍ من
الانحياز والانتقائيّة، بل وعن استعدادٍ واضحٍ لدى قطّاعات واسعة
من الإعلام الغربيّ لتوظيف حادثٍ فرديٍّ في إطار حملةٍ منظّمةٍ لتشويه مظاهرات التّضامن
مع
فلسطين، وربطها قسرا بخطاب العنف والكراهية.
فخلال
ساعاتٍ قليلةٍ، انتقلت بوصلة التّغطية من البحث في ملابسات الحادث نفسها إلى تحميل
الحراك التّضامنيّ العالميّ مع الشّعب الفلسطينيّ مسؤوليّة معنويّة وسياسيّة عنه، عبر
عناوين وتحليلات تحدّثت عن "عولمة الانتفاضة" و"تحريض الشّارع"،
في خلطٍ متعمّدٍ بين هجومٍ فرديٍّ وبين حركةٍ احتجاجيّةٍ سلميّةٍ خرجت، ولا تزال، رفضا
للقتل الجماعيّ والإبادة التي يتعرّض لها المدنيّون في قطّاع غزّة.
انتقلت بوصلة التّغطية من البحث في ملابسات الحادث نفسها إلى تحميل الحراك التّضامنيّ العالميّ مع الشّعب الفلسطينيّ مسؤوليّة معنويّة وسياسيّة عنه
والحقيقة
التي يجري تجاهلها عمدا أنّ مظاهرات التّضامن مع فلسطين، في بريطانيا وخارجها، لم تكن
يوما ضدّ أيّ جماعةٍ دينيّةٍ أو إثنيّةٍ، وإنّما كانت -في جوهرها- حراكا أخلاقيا وإنسانيا
ضدّ القتل العشوائيّ، وضدّ تدمير المدن فوق رؤوس ساكنيها، وضدّ سياسات كيانٍ محتلٍّ
تمارس العنف المنهجيّ بحقّ شعبٍ أعزل. إنّ الإيحاء بعكس ذلك ليس تحليلا، بل افتراء
سياسيّ وإعلاميّ.
الأكثر
لفتا للنّظر في هذا الهجوم الإعلاميّ هو هويّة الأصوات الّتي تقوده. فالكثير ممّن يرفعون
اليوم لواء "إدانة العنف" هم أنفسهم من برّروا، أو صمتوا، أو التمسوا الأعذار
لقصف غزّة، وقتل عشرات الآلاف من المدنيين، وتدمير المستشفيات والمدارس ومخيّمات اللّاجئين.
هؤلاء هم آخر من يملك أهليّة أخلاقيّة للحديث عن رفض العنف أو الدّفاع عن المدنيين.
أمّا الهجوم
الّذي وقع في شاطئ بوندي نفسه، فيبدو -وفق المعطيات المتاحة- فعلا نفذّه شخصان لا ثالث
لهما، وهو فعلٌ مدانٌ ومرفوضٌ، فلا يمكن تبرير الاعتداء على المدنيين تحت أيّ ذريعة.
لكنّ إدانة هذا الهجوم لا تعني، ولا تبرّر، تحويله إلى أداةٍ لتشويه حركةٍ احتجاجيّةٍ
واسعةٍ، أو لتجريم التّضامن مع شعبٍ يتعرّض لإبادةٍ موثّقةٍ يوميا.
غير أنّ
ما يكشف عمق الانحياز الإعلاميّ ليس فقط ما قيل، ولكن ما جرى تجاهله عمدا. فخلال الهجوم
في شاطئ بوندي، بادر رجلٌ سوريٌّ عربيٌّ مسلمٌ، هو أحمد الأحمد، إلى التّدخّل المباشر
لوقف أحد المعتديين، مخاطِرا بحياته لمنع وقوع مجزرةٍ أوسع. وتشير الرّوايات المتداولة
إلى أن تدخّله كان حاسما في إنقاذ أرواحٍ بريئةٍ، لقد تصرّف بدافعٍ إنسانيٍّ خالصٍ،
دون اعتبارٍ لهويّة الضّحايا أو انتماءاتهم، مجسّدا معنى الشّجاعة والمسؤوليّة الأخلاقيّة
في أنقى صورها.
وكان من
المفترض أن يكون هذا الموقف في صلب التّغطية الإعلاميّة، بوصفه رسالة إنسانيّة جامعة
تتجاوز الصّور النّمطية والانقسامات السّياسية، إلّا أنّ ما حدث هو العكس تماما؛ فقد
جرى تهميش هذا الدّور، وعندما ذُكر، أُفرغ من سياقه الحقيقيّ.
ويبدو
أنّ اسم أحمد الأحمد ذاته كان كافيا لإرباك محاولات بعض وسائل الإعلام في الالتفاف
على الحقيقة؛ فهو اسمٌ عربيٌّ مسلمٌ صريحٌ، جعل مهمّة إخفاء خلفيّته العرقيّة والدّينيّة
مهمّة شاقّة، بخلاف ما يحدث عادة عندما يكون الفاعل عربيا أو مسلما، حيث تتحوّل الهويّة
فورا إلى عنوانٍ رئيسيٍّ وسلاح اتّهامٍ جاهزٍ.
ففي معظم
التّغطيات، غابت الإشارة إلى خلفيّته السّورية، وإلى هويّته العربيّة، وإلى كونه مسلما.
هذا التّجاهل لم يكن بريئا، وإنّما يعكس ازدواجيّة معايير متجذّرة في الخطاب الإعلاميّ
الغربيّ، الّذي يسارع إلى تسييس هويّة العربيّ والمسلم عندما تخدم سرديّة التّخويف،
ويتجاهلها عندما تكشف زيف هذه السّرديّة.
لو كان الإعلام صادقا في موقفه من العنف، لروى قصّة شاطئ بوندي كاملة: أدان الهجوم بوضوحٍ، ورفض استغلاله سياسيا، وسلّط الضّوء على شجاعة أحمد الأحمد، وفتح نقاشا جدّيا حول ازدواجيّة المعايير، بدل توجيه سهامه نحو من يطالبون بوقف الإبادة
كما أنّ
تغييب قصّة أحمد الأحمد يخدم هدفا آخر، يتمثّل في تكريس الصّورة النّمطيّة الّتي تربط
الحراك المؤيّد لفلسطين بالعنف والكراهيّة، في حين أنّ الواقع يظهر أنّ هذا الحراك
هو، في جوهره، دفاعٌ عن حياة المدنيّين ورفضٌ للقتل الجماعيّ، أيا كان مرتكبه.
إنّ محاولة
ربط هجوم شاطئ بوندي بمظاهرات التّضامن مع فلسطين ليست فقط غير دقيقةٍ، بل خطيرة أيضا،
فهي تلغي الفارق الجوهريّ بين حادثٍ فرديٍّ مدانٍ، وبين عنف دولةٍ منظّمٍ تمارسه سلطات
الاحتلال بشكلٍ
يوميٍّ، بدعمٍ سياسيٍّ وعسكريٍّ وإعلاميٍّ واسعٍ. فالإبادة في غزّة ليست خطابا ولا
شعارا، هي واقعٌ دمويٌّ متواصلٌ، تُقصف فيه الأحياء السّكنيّة، ويُقتل الأطفال بالجملة،
ويُحاصر السّكان بلا ماء ولا دواء.
الخلط
بين احتجاجاتٍ سلميّةٍ ترفض هذه الجرائم وبين فعلٍ معزولٍ، يساهم في صرف الأنظار عن
الجرائم الحقيقيّة، ويقوّض الحقّ في الاحتجاج، ويحوّل التّضامن الإنسانيّ إلى موضع
اتّهامٍ. وهذا ليس نتاج صحافةٍ سيّئةٍ فحسب، بل خيار سياسيّ مقصود.
ولو كان
الإعلام صادقا في موقفه من العنف، لروى قصّة شاطئ بوندي كاملة: أدان الهجوم بوضوحٍ،
ورفض استغلاله سياسيا، وسلّط الضّوء على شجاعة أحمد الأحمد، وفتح نقاشا جدّيا حول ازدواجيّة
المعايير، بدل توجيه سهامه نحو من يطالبون بوقف الإبادة.
إلى أن
يحدث ذلك، يبقى واجب المدافعين عن العدالة أن يواصلوا الردّ بثقةٍ ووضوحٍ، وألّا يسمحوا
بتشويه الحقائق أو إسكات الأصوات المطالبة بالحدّ الأدنى من القيم الإنسانيّة: أن تكون
حياة الإنسان -بما في ذلك حياة الفلسطينيّ- ذات قيمةٍ، ولا تُستباح بلا حساب.