وُصف
الصراع في
غزة بعد عملية طوفان الأقصى في السابع من تشرين الأول/ أكتوبر 2023، والإبادة الجماعية التي تلته، بأنه كارثة مزقت
الزمن، ونقلت العالم قبل غزة إلى عصر آخر.
لقد
كانت الحرب بمثابة مرآة ناقدة، مما يكشف عن الفشل الأخلاقي العميق للمجتمع الدولي،
ما دفع العديد من المراقبين إلى استنتاج أن
النظام الدولي القائم على القواعد، والذي
تأسس بعد الحرب الثانية 1945، في طور التفكك أو الانهيار. وفي إطار هذا التمزق، برز
دور بعض دول
الجنوب العالمي كقوة مؤثرة بشكل متزايد، مستغلا الغضب الواسع النطاق إزاء
الدمار في غزة، ومستهدفا إعادة تشكيل الحوكمة العالمية، وتحدي الهيمنة الغربية، وتغيير
العلاقة الجيوسياسية بين الشمال والجنوب بشكل جذري.
يُنظر
الآن إلى الجنوب العالمي باعتباره قوة حاسمة ومؤثرة بشكل متزايد في الدفع نحو إعادة
تقييم القانون الدولي وهياكل الحكم، مدفوعة بالنفاق الملحوظ وتواطؤ القوى الغربية التقليدية
في الفظائع المستمرة. لا يشير هذا التحول إلى مجرد حركة مؤقتة، بل قد يشير إلى بداية
حقبة جيوسياسية جديدة.
لقد
حفزت حرب غزة بعض دول الجنوب العالمي على التحرك الجماعي، مؤكدة على وجود قيادة أخلاقية
وقانونية تتناقض بشكل حاد مع التقاعس الملحوظ أو التواطؤ الصريح من جانب الغرب. بالنسبة
للعديد من الدول، أصبحت
فلسطين تجسيدا رمزيا للمقاومة ضد النفاق الغربي والنظام الاستعماري
القمعي.
حفزت حرب غزة بعض دول الجنوب العالمي على التحرك الجماعي، مؤكدة على وجود قيادة أخلاقية وقانونية تتناقض بشكل حاد مع التقاعس الملحوظ أو التواطؤ الصريح من جانب الغرب
القيادة القانونية والأخلاقية
إن
المثال الأبرز على تأكيدات الجنوب العالمي الجديدة هو قضية الإبادة الجماعيةالتي رفعتها جنوب أفريقيا ضد إسرائيل في
محكمة العدل الدولية في كانون الأول/ ديسمبر 2023.
جنوب أفريقيا، مستغلة سلطتها الأخلاقية المستمدة من التغلب على نظام الفصل العنصري،
ربطت صراحة تصرفات إسرائيل بتاريخ يمتد لـ75 عاما مما أسمته "الفصل
العنصري" ضد الفلسطينيين.
صرح وزير العدل في جنوب أفريقيا بوضوح بأنه لا يمكن لأي هجوم، مهما كانت شدته، أن يبرر
العنف الذي يليه. هذا الإجراء، الذي اتُخذ في مواجهة العداء الغربي المتطرف، قدمت إطارا
للمساءلة القانونية التي تبنتها العديد من دول الجنوب العالمي.
وأعلنت
اثنتا عشرة دولة أخرى على الأقل من دول الجنوب العالمي في وقت لاحق عن نيتها التدخل
في قضية محكمة العدل الدولية، مما يشير إلى دعم دولي واسع النطاق ويشير إلى تحول نحو
تحدي التسامح الغربي مع الإفلات من العقاب المفترض. علاوة على ذلك، تحدث زعماء مثل
الرئيس البرازيلي لويس إيناسيو لولا دا سيلفا بنشاط، وقارنوا الحرب في غزة بالهولوكوست
النازي، وأكدوا أن الصراع كان في الواقع إبادة جماعية.
تُظهر
هذه الإجراءات أن الجنوب العالمي يقود بشكل متزايد الجهود الرامية إلى محاسبة الجهات
الفاعلة القوية، وخاصة فيما يتعلق بالجرائم ضد الإنسانية والإبادة الجماعية.
النفوذ الاقتصادي والدبلوماسي
كما
استغلّ الجنوب العالمي نفوذه الاقتصادي والدبلوماسي للتعبير عن موقفه. وقد أدّى التحوّل
الجذري في الرأي العام العالمي وفي العالم العربي والجنوب العالمي إلى إجبار بعض الدول
على إبطاء أو وقف جهود التطبيع مع إسرائيل.
أجبرت
الحرب الرياض على إيقاف مسار التطبيع، الذي كان بمثابة الحد الأدنى الحرج في ظل مشروع
الاحتلال. وبالمثل، أدت الحرب إلى تعطيل المبادرات الاقتصادية الإقليمية، مثل الممر
الاقتصادي بين الهند والشرق الأوسط وأوروبا (IMEC)،
بسبب تصاعد التوترات وعدم الاستقرار الناجم عن الصراع.
مجموعة
لاهاي (The Hague Group)،
وهي تحالف دولي غير مسبوق من دول، غالبا ما توصف بأنها من "الجنوب
العالمي" (Global South)، تأسست
بهدف دعم دولة فلسطين والعمل على إنهاء الاحتلال الإسرائيلي ومحاسبة إسرائيل على انتهاكاتها
للقانون الدولي.
تكمن
أهمية مجموعة لاهاي في أنها تمثل تحولا نوعيا في جهود الجنوب العالمي لتطبيق القانون
الدولي، خاصة في مواجهة ما تعتبره تقاعسا أو دعما من قبل دول غربية كبرى لإسرائيل.
علاوة
على ذلك، ظهرت جهود مقاطعة ضخمة عبر الحدود، وتجسدت في الانتشار السريع للحركات التي
تستهدف الشركات التي يُنظر إليها على أنها تدعم إسرائيل. أسفرت حملات المقاطعة عن خسائر
مالية كبيرة للعلامات التجارية العالمية، مما يوضح القوة الجماعية للجنوب العالمي عندما
يتم حشدها من خلال الغضب العام الواسع النطاق والشعور المشترك بالظلم.
لم
تغير حرب غزة الإجراءات الفورية التي اتخذها الجنوب العالمي فحسب؛ بل أرست الأساس لدور
مستقبلي أعيد هيكلته وربما يكون أكثر قوة، يركز على إصلاح العدالة الدولية والتعامل
مع عالم متعدد الأقطاب جديد وحازم.
إعادة تعريف العدالة والحوكمة الدولية
ينشط
الجنوب العالمي في حملة من أجل إصلاح شامل لآليات العدالة الدولية، إنهم ينظرون إلى
هياكل ومؤسسات الحوكمة العالمية القائمة، مثل الأمم المتحدة والمحكمة الجنائية الدولية،
على أنها قد تعرضت للتقويض وأصبحت غير فعالة بسبب التطبيق الانتقائي للقانون الدولي
من قبل الدول الغربية.
الهدف
هو الانتقال من "عدالة
المنتصر" إلى "عدالة الضحية"، حيث كان المنتصر هو الغرب والضحية هو الجنوب.
وهذا يستلزم تعزيز التمثيل والصوت الأكبر للجنوب العالمي في المنتديات العالمية، وضمان
عدم تأثر إنفاذ القانون الدولي بالمصالح الجيوسياسية أو التحيزات التاريخية. تسعى هذه
الحركة إلى تسريع القرارات الرامية إلى وقف الهجمات العسكرية ومنع الوفيات غير الضرورية،
والأمر الحاسم هو أن هناك جهودا لتعزيز فعالية المحاكم الجنائية الدولية وتعزيز الاتجاه
نحو التعددية القطبية داخل هذه المؤسسات، بدلا من السماح للدول القوية بتقويضها.
لم
يعد يُنظر إلى مقاضاة جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية والإبادة الجماعية المحتملة
على أنها قضية متخصصة، بل باعتبارها عنصرا أساسيا في رؤية الجنوب العالمي لنظام عالمي
أكثر عدلا.
الملاحة في التعددية القطبية والاستقلال الاستراتيجي
لقد
أدت الحرب إلى تسريع التحول بعيدا عن عالم أحادي القطب تهيمن عليه الولايات المتحدة.
يتطلع الجنوب العالمي بشكل متزايد إلى شراكات بديلة تعطي الأولوية للتنمية والاستقرار
وعدم التدخل، مما يعكس عدم الرضا عن نهج واشنطن الذي يضع الأمن وصفقاتها الذاتية أولا.
لقد
اغتنمت الصين وروسيا الفرصة التي أتاحتها الحرب لتعزيز صورتهما الدولية ونفوذهما. على
سبيل المثال، وضعت الصين نفسها كوسيط محايد لتعزيز السلام والاستقرار من خلال مبادرات
التعاون الاقتصادي مثل مبادرة الحزام والطريق، وهو نهج يتناقض بشكل حاد مع ميل الولايات
المتحدة إلى تغيير النظام والتدخل العسكري. أصبحت شعبية الصين في العالم العربي الآن
أعلى بكثير من شعبية الولايات المتحدة. وبالمثل، استغلت روسيا الوضع لانتقاد الغرب
وتحويل الانتباه العالمي عن الحرب في أوكرانيا. إن وجهة النظر السائدة في بكين تجاه
الجنوب العالمي تنظر إلى العالم من منظور متعدد الأقطاب، مع مراعاة مصالح كل من الشمال
والجنوب، على عكس النهج الصفري الذي غالبا ما يُنظر إليه من واشنطن.
علاوة
على ذلك، تسعى دول الجنوب العالمي إلى تحقيق الاستقلال الاستراتيجي من
خلال تنويع الشراكات الاقتصادية والعسكرية. إن القرار المحوري الذي اتخذته المملكة
العربية السعودية في حزيران/ يونيو 2024 بعدم تجديد اتفاقية البترودولار التي مضى عليها
50 عاما مع الولايات المتحدة؛ أشار إلى نيتها في تأمين رهاناتها وتقليل الاعتماد على
واشنطن، بما يتماشى مع علاقاتها المتنامية مع تحالف البريكس للاقتصادات الناشئة. تمثل
هذه الخطوة نهاية حقبة حددتها اتفاقية النفط مقابل الحماية بين الولايات المتحدة والسعودية،
وقد تمهد الطريق لإعادة تنظيم اقتصادي وسياسي عالمي جديد.
لقد
ألحقت حرب غزة ضررا كبيرا بمصداقية الشمال العالمي، وحطمت "الوهم
الضروري" المتمثل
في وجود إنسانية مشتركة قائمة على احترام حقوق الإنسان والمعايير القانونية التي نشأت
بعد عام 1945.
فضح المعايير المزدوجة والفشل المعياري
سلطت الأحداث في غزة الضوء بشكل واضح على التناقض بين الإدانة السريعة والعنيفة من جانب الغرب لأفعال روسيا في أوكرانيا، ودعمها الثابت وغير المشروط -العسكري والمالي والدبلوماسي- لإسرائيل أثناء تدمير غزة
إن
السمة المميزة للعلاقة المعاد تشكيلها بين الشمال والجنوب هي التصور السائد لدى دول
الجنوب العالمي للنفاق الغربي والمعايير المزدوجة. لقد سلطت الأحداث في غزة الضوء بشكل
واضح على التناقض بين الإدانة السريعة والعنيفة من جانب الغرب لأفعال روسيا في أوكرانيا،
ودعمها الثابت وغير المشروط -العسكري والمالي والدبلوماسي- لإسرائيل أثناء تدمير غزة.
واتُّهمت
الحكومات ووسائل الإعلام الغربية بالتعتيم الصريح والإنكار وحتى تبرير قتل عشرات الآلاف
من الفلسطينيين، وكان أغلبهم من النساء والأطفال. إن هذا التواطؤ الملحوظ فيما يصفه
الكثيرون في الجنوب العالمي بالإبادة الجماعية، أظهر خيانة عميقة لقيم الديمقراطية
وحقوق الإنسان التي دافع عنها الغرب لفترة طويلة.
كشفت
الحرب أن الغرب يعمل وفق سياسة تطبيق القانون الدولي الانتقائي، حيث تتفوق الجغرافيا
السياسية والتحالفات على المبادئ العالمية. لقد خلقت هذه الخسارة في رأس المال الأخلاقي "جرحا داخليا" وصدمة
نفسية لملايين الأشخاص في جميع أنحاء العالم الذين شهدوا لا مبالاة الأقوياء، على حد
قول المفكر الهندي بانكاج ميشرا في كتابه القيم: "
العالم بعد غزة".
عودة السرد المناهض للاستعمار
بالنسبة
للجنوب العالمي، يُنظر إلى الصراع الإسرائيلي الفلسطيني بشكل أساسي من خلال العدسة
التاريخية لإنهاء الاستعمار و"خط اللون"، الذي نشأ وتطور عالميا بين البيض والملونين،
حيث إلى أي مدى سيتم اتخاذ اختلافات العرق أساسا لحرمان أكثر من نصف العالم من حقهم
في المشاركة بأقصى قدر من قدرتهم في فرص وامتيازات الحضارة الحديثة؟
هذا
المفهوم لا يزال ذا أهمية في تحليل التفاوتات العالمية المستمرة، والمساعدات الإنسانية،
والعلاقات بين الشمال والجنوب العالميين، وكيف أن العرق والعنصرية لا تزال تشكل القضايا
الدولية.
إن
معاناة الفلسطينيين تُعتبر امتدادا للجرائم الجماعية التاريخية -بما في ذلك العبودية
والإبادة الجماعية والإمبريالية العنصرية- التي ارتكبتها القوى الغربية ضد الشعوب غير
البيضاء.
أشعلت
الحرب ثورة عالمية مدفوعة بالاقتناع بأن الامتياز العنصري لم يعد ينبغي أن يشكل أساس
النظام العالمي. لا يُنظر إلى الصراع على أنه مجرد نزاع محلي، بل باعتباره مواجهة بين
الشمال العالمي والجنوب العالمي، وبين الشعوب البيضاء وغير البيضاء. وقد تردد صدى هذا
الإطار بعمق مع تجارب الدول التي كانت مستعمرة سابقا، والتي ترى أن إنكار الحقوق الفلسطينية
هو استمرار للظلم التاريخي. لذلك فإن الانتقادات الدولية الواسعة النطاق لإسرائيل ليست
هوسا منافقا، كما يدعي بعض النقاد، بل هي انعكاس للصدى العميق لرواية إنهاء الاستعمار.
الاستقطاب الداخلي بين الشمال والجنوب
من
أهم العوامل التي تُعيد تشكيل العلاقة هو التباعد المتزايد داخل دول الشمال
العالمي نفسها. فبينما حافظت الحكومات الغربية على دعمها لإسرائيل، أطلقت شرائح واسعة
من شعوبها، وخاصة الشباب والطلاب والأكاديميين والجماعات اليسارية، احتجاجات حاشدة
ومستمرة تندد بسياسات حكوماتها.
هذا "الانقسام الحاد" بين النخب
الغربية ومواطنيها الساخطين يضفي مصداقية قوية على رواية الجنوب العالمي حول الفشل
والنفاق الغربي. شملت حركات التضامن المكثفة والشاملة مجموعات متنوعة مثل حركة حياة
السود مهمة، والمجتمعات اليهودية التقدمية (المناهضة للصهيونية)، ونشطاء مجتمع الميم،
والنسويات، مما أدى إلى خلق خطاب عابر للحدود الوطنية يهدف إلى توجيه اتهام أخلاقي
شامل للنخب الغربية.
إن
هذه التعبئة الشعبية ضد الظلم الذي يدعمه الشمال تعمل كنقطة ضغط داخلية حاسمة،
مما يحد من الخيارات السياسية للحكومات الغربية.
تشكل
حرب غزة عام 2023 نقطة تحول حاسمة بالنسبة للجنوب، لكن السؤال
الذي يجب التوقف أمامه طويلا لأنه يحتاج إلى مزيد من المتابعة؛ هو: هل سيتحول الجنوب
العالمي من مجموعة من الدول غير المترابطة إلى كتلة متماسكة، تكون لاعبا واعيا بذاته،
شديد الوضوح، ومؤثرا، يطالب بتغييرات جذرية في النظام العالمي، أم يظل منقسما على ذاته؟
السلطة الأخلاقية للشمال العالمي تتضاءل، مما يغذي مسارا متسارعا نحو عالم متعدد الأقطاب حيث يتمتع الجنوب العالمي، بدعم من الشراكات الاستراتيجية الجديدة
شهد
الموقف من مناصرة الفلسطينيين انقساما يعكس مصالح بعض الدول وانحياز نخبتها الحاكمة
أيديولوجيا وسياسيا. الهند، وهي تمثل كتلة كبيرة في الجنوب تاريخيا؛ انحازت إلى دعم
إسرائيل، وهي في طبعتها اليمينية مع رئيس الوزراء مودي تتقارب مع اليمين الصهيوني في
إسرائيل. وتظل الحكومات في الجنوب العالمي عرضة للتقلبات السياسية والانحيازات، وهو
ما يجعل موقف دول الجنوب تجاه فلسطين والموقف من الغرب غير مستقر.
ومع
ذلك، فلقد عززت الحرب مكانة فلسطين على قمة الوعي السياسي العالمي؛ فهي بمثابة حافز
لنشاط الجنوب العالمي، مع التركيز على إنهاء الإفلات من العقاب وإعادة تعريف القانون
الدولي. لقد تضررت العلاقة بين الشمال والجنوب بشكل لا يمكن إصلاحه بسبب التواطؤ الغربي
الملحوظ في تدمير غزة والإبادة الجماعية لسكانها، مما يؤكد الاستياء العنصري والاستعماري
الذي طال أمده.
السلطة
الأخلاقية للشمال العالمي تتضاءل، مما يغذي مسارا متسارعا نحو عالم متعدد الأقطاب حيث
يتمتع الجنوب العالمي، بدعم من الشراكات الاستراتيجية الجديدة (على سبيل المثال، مع
الصين وروسيا) والاستقلال الاقتصادي المتزايد، بنفوذ أكبر.
لا
يزال التحدي الذي يواجه الجنوب العالمي هو ترجمة انتصاره الأخلاقي وغضبه إلى قوة سياسية
وبنيوية مستدامة وموحدة، مما يضمن أن تؤدي العواقب المدمرة للحرب إلى مستقبل أكثر عدلا
وتقيدا بالقواعد. ومن المرجّح بقوة أن تاريخ القرن الحادي والعشرين سوف يتشكل من خلال
النتائج التي تم صياغتها في بوتقة غزة.