ما إن دخل «وقف إطلاق النار» حسب التعبير
اللبناني، و»هدنة الستين يوما»، حسب التعبير الإسرائيلي حيز التنفيذ، حتى تعالت أصوات أطراف النزاع المختلفة معلنة انتصارها على عدوها. فإيران وحزب الله ومعهما المفاوضان نبيه بري ونجيب ميقاتي يصرحون بأنهم حققوا إنجازا مهما بحق عدو لم يسمحوا له بتنفيذ أجندته في لبنان.
بينما حكومة نتنياهو ومعها المفوض والراعي الأمريكي على الجانب الآخر يصرحون بأنهم حققوا انتصارا تاريخيا بتأمين الحدود الشمالية لإسرائيل عبر تدمير القوة العسكرية لحزب الله، ودفعها بعيدا عن الحدود، مع إيجاد منطقة حزام عازل منزوع السلاح بعمق عدة كيلومترات بين لبنان وإسرائيل. خسر
حزب الله في حربه الأخيرة الخط الأول لقيادته بالكامل تقريبا، وحسب مصادر مطلعة فقد لبنان ما يصل إلى أربعة آلاف شخص، وجرح 15 ألفا من المدنيين ومن مقاتلي حزب الله، وهو ما يزيد كثيراً عن عشرة أمثال عدد الخسائر التي تكبدها الحزب في حربه مع إسرائيل عام 2006.
كما أعلنت المنظمة الدولية للهجرة، والمفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، أن أكثر من 886 ألف شخص نزحوا داخل لبنان حتى 18 تشرين الثاني/ نوفمبر. وقال تقرير للبنك الدولي إن تكلفة الأضرار التي لحقت بقطاع الإسكان في لبنان تقدر بنحو 2.8 مليار دولار، مع تدمير أكثر من 99 ألف وحدة سكنية جزئيا أو كليا. وذكر مختبر المدن في بيروت التابع للجامعة الأمريكية أن الضربات الجوية الإسرائيلية هدمت 262 مبنى على الأقل في الضاحية الجنوبية لبيروت وحدها. كما ألحق الجيش الإسرائيلي أضرارا واسعة النطاق بقرى وبلدات في جنوب لبنان وسهل البقاع. وقدر تقرير البنك الدولي الأضرار التي لحقت بالزراعة بنحو 124 مليون دولار وخسائر تزيد على 1.1 مليار دولار، بسبب فوات الحصاد نتيجة تدمير المحاصيل والثروة الحيوانية ونزوح المزارعين.
الشرق الأوسط ليست لديه فرصة للهروب من أجيال أخرى من الحروب والموت العنيف، حتى تتم مواجهة الانقسامات السياسية الأساسية في المنطقة وإصلاحها
أما على الجانب الإسرائيلي فقد أُعلن أن ضربات حزب الله بالصواريخ والمسيرات، قتلت 45 مدنيا في شمال إسرائيل وهضبة الجولان السوري المحتل. كما أعلنت السلطات الإسرائيلية أن 73 جنديا إسرائيليا على الأقل قتلوا في معارك جنوب لبنان. كما أعلن أن عدد المهجرين من شمال إسرائيل بلغ أكثر من 60 ألف شخص. أما بالنسبة للخسائر المادية الإسرائيلية فقد تعرض ثلث الإسرائيليين لنيران الحزب في الشهرين الماضيين، حيث تضرر 2874 مبنى مدنيا بصواريخه ومسيّراته. كما فاقم الصراع مع حزب الله التأثير السيئ على الاقتصاد الإسرائيلي، ما أدى إلى ضغط على المالية العامة.
وارتفع العجز في الميزانية إلى نحو 8 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي، ما دفع وكالات التصنيف الائتماني الثلاث الكبرى، إلى خفض تصنيف إسرائيل هذا العام. وفاقم الصراع الاضطرابات في سلاسل التوريد حتى صعد التضخم إلى 3.5 في المئة متخطياً النطاق المستهدف للبنك المركزي، بين واحد وثلاثة في المئة. وأبقى البنك المركزي نتيجة لهذا على أسعار فائدة مرتفعة لكبح التضخم، فظلت أسعار الرهن العقاري مرتفعة، وتفاقمت الضغوط على الأسر.
لقد كانت استراتيجية الردع التي تبناها حزب الله وإيران تماثل استراتيجية الردع التي تبنتها إسرائيل طيلة ما يقرب من عشرين عاماً بعد نهاية حرب 2006، الأمر الذي أنتج طوال عقدين ما عرف بقواعد الاشتباك بين الطرفين، ولكن من بين التغييرات العميقة التي أحدثتها هجمات السابع من أكتوبر/تشرين الأول، إصرار إسرائيل على عدم قبول القيود المفروضة على الحروب التي ستشنها رداً على ذلك.
كما لم تفرض أمريكا، حليفتها الأكثر أهمية، أي قيود تقريباً على توريد أو استخدام الأسلحة التي ظلت تزودها بها.
لقد فشل حزب الله وإيران في رؤية ما حدث ولم يفهما كيف تغيرت إسرائيل. وسعيا إلى فرض حرب استنزاف على إسرائيل، ونجحا في ذلك لمدة عام تقريباً. ثم في السابع عشر من سبتمبر/أيلول تمكنت إسرائيل من الخروج من هذه الحرب بضربة ما عرف بتفجير أجهزة البيجر، إذ فقد حزب الله توازنه، وقبل أن يتمكن من الرد بأقوى الأسلحة التي زودته بها إيران، قتلت إسرائيل الأمين العام للحزب السيد حسن نصر الله، ومعظم قيادات الخط الأول في الحزب، مصحوبة بضربات ضخمة دمرت مخازن الأسلحة.
تبع ذلك غزو بري لجنوب لبنان صاحبه تدمير ممنهج وشامل للقرى الحدودية اللبنانية، وكذلك شبكة أنفاق حزب الله. ليبدو المشهد الآن بعد كل ما تعرض له حزب الله في الحرب الأخيرة، وكأنه أخرج ولامد طويل من معادلة تهديد إسرائيل، وربما أعادته الضربات الأخيرة إلى حجمه الطبيعي الذي يمكن أن يلعبه كحزب شيعي في المعادلة السياسية اللبنانية كما هو حال حركة أمل، على سبيل المثال.
ويتخوف عدد من المراقبين والباحثين في الشأن اللبناني من تفاصيل مخفيه في اتفاق وقف إطلاق النار، الذي وقعه رئيس البرلمان اللبناني نبيه بري بتفويض من حزب الله، إذ يبدو أن هنالك فقرات تشير إلى إعطاء الكيان حق توجيه الضربات العسكرية في حال اكتشافه عدم التزام حزب الله بالقرار الأممي 1701، أو أن قوات حزب الله تجاوزت حدود وجودها جنوب نهر الليطاني، الذي يجب أن يبقى تحت سيطرة الجيش اللبناني.
كما أن هناك بندا آخر مخفيا أو مبهما في الاتفاق، يشير إلى حق الكيان بضرب أي تواصل أو إمدادات تتم بين حزب الله والنظام السوري على طول الحدود السورية اللبنانية، وهو أمر إذا حصل فإنه سيعني إنهاء دور حزب الله الإقليمي بشكل نهائي. كما أن الاتفاق الأخير من وجه نظر بعض المعلقين اللبنانيين سيفتح نقطة بقيت معلقة طوال العشرين عاما الماضية، أي منذ حرب 2006 وإصدار قانون 1701 الأممي الذي لم يتم الالتزام به حينذاك، وهذه النقطة هي المطالبة بنزع سلاح المقاومة وتفعيل مبدأ حصر السلاح بيد الدولة.
فبعد أن أخرج الحزب من معادلة المواجهة مع الكيان الصهيوني، أصبح من المنطقي عدم جدوى استمراره في رفع شعار (سلاح المقاومة) الذي يجب الاحتفاظ به خارج أطر المؤسسات الامنية والعسكرية للدولة اللبنانية. لكن حزب الله سرعان ما أجاب على هذه النقطة، فقد أشارت قيادته إلى أن الحزب ينوي الاحتفاظ بأسلحته، الأمر الذي حطم آمال خصومه اللبنانيين. إذ قال مسؤولون في حزب الله، إن المقاومة – التي يُفهم على نطاق واسع أنها تعني وضعها المسلح – ستستمر.
في خطبة ألقاها في أكتوبر، قال المرشد الأعلى الإيراني علي خامنئي مخاطباً الشعب اللبناني: «سيتم تعويض الدمار. وسداد الدين للبنان الجريح النازف هو واجبنا». وهنا يطرح سؤال مفاده؛ هل ستسمح إيران بعد اتفاق وقف إطلاق النار الأخير ببتر أهم وأقوى أذرعها الإقليمية وهي واقفة تتفرج على المشهد؟ يبدو جليا أن الايرانيين لا يملكون الكثير لتقديمه للبنان، إذ يمرون بظروف عصيبة حالهم حال حلفائهم الإقليميين، ويبدو أن طهران تتهيأ لسنوات عجاف على يد إدارة ترامب المقبلة، وتحاول حكومة بزشكيان في هذه الأثناء أن تلملم أوراقها التي يمكن أن تلعبها في المستقبل القريب عند تزايد الضغوط عليها من إدارة صقور الجمهوريين المقبلة، لذلك يبدو أن لا أحد يعول كثيرا على موضوع المساعدة الإيرانية في ملف الإعمار اللبناني في المستقبل القريب.
المحصلة التي يمكن أن نراها هي أن الشرق الأوسط ليس لديه فرصة للهروب من أجيال أخرى من الحروب والموت العنيف، حتى تتم مواجهة الانقسامات السياسية الأساسية في المنطقة وإصلاحها. لكن يبقى الصراع الأكبر وتجلياته المتمثلة بالعدوان الصهيوني المستمر، هو المحرك الأساس لزعزعة الأمن في المنطقة، وما لم يوضع حل جذري لهذا الأمر ستبقى المنطقة تتقلب على صفيح ساخن من الحروب المتوالية.