مهما
كان موقفنا من البورقيبية أو الأيديولوجيا المؤسسة للدولة الوطنية، "الدولة-الأمة"،
فإنّنا لا نستطيع أن نُنكر أنها قد احتلت دائما موقع "الخطاب الكبير" أو
السردية المعيارية سواء في لحظة التأسيس (اللحظة الدستورية الممتدة من إعلان
الجمهورية يوم 25 تموز/ يوليو 1957 إلى انقلاب 7 تشرين الثاني/ نوفمبر 1987) أو في
لحظة إعادة التدوير أو "الإنقاذ" (اللحظة التجمعية الممتدة من 7 تشرين
الثاني/ نوفمبر 1987 إلى هروب المخلوع يوم 14 كانون الثاني/ يناير 2011).
وبحكم
الطبيعة الاستبدادية لمنظومة الحكم قبل
الثورة، وبالنظر إلى التغييب الممنهج للشعب
في المسائل التشريعية، فقد تحوّل المجتمع
التونسي إلى مجرد فضاء لإسقاط قيم
الجمهورية الفرنسية ومبادئ ثورتها اللائكية بصورة مشوهة، وبدعوى
"التحديث" و"اللحاق بركب الدول المتقدمة" عبر تشريعات
"تقدمية" (أي تشريعات "متقدمة" على وعي الأفراد، بل معارضة
لقناعاتهم وحتى لعقائدهم، وهي موضوعة لفرض واقع جديد ينبغي على ذلك الوعي أن يتحرك
ليتطابق معه بمنطق الإكراه السلطوي).
رغم
فشل البورقيبية -في لحظتيها الدستورية والتجمعية- في تحقيق أهدافها الاقتصادية
والاجتماعية، وهو أمر يمكن البرهنة عليه بالأرقام وبالتجارب التحديثية المقارنة،
بل رغم تحول البورقيبية إلى أيديولوجيا طاردة لأي مشروع للتحرر من الاستعمار غير
المباشر، فإنها قد نجحت بعد "الثورة" في المحافظة على دور "الخطاب
الكبير" (أي الخطاب المرجعي لسائر الخطابات المتنازعة يمينا ويسارا على إدارة
الشأن العام)، وذلك بحكم فشل النخب -خاصة أصحاب السرديات الكبرى- في التوافق على
سردية تتجاوز البورقيبية تجاوزا جدليا (أي بناء سردية "ما بعد بورقيبية"
تتعامل مع
بورقيبة ومع خياراته التأسيسية وميراثه التشريعي دون أمثَلة ولا شيطنة).
خيار "استمرارية الدولة" إيذانا بالانقلاب على الثورة وشعاراتها، كما كانت "البورقيبية" مدخلا ملكيا لإفشال الانتقال الديمقراطي في المستوى السياسي، وتحويلا للثورة إلى مشروع إصلاحي في سقفه الأعلى. وبحكم موازين القوى بين الفاعلين الاجتماعيين وارتباط أغلبهم بالمنظومة القديمة، فإن الإصلاح السياسي ذاته أصبح أفقا بعيدا، فما بالك بالإصلاح الاقتصادي أو الاجتماعي أو القيمي
واقعيا،
كان خيار "استمرارية الدولة" إيذانا بالانقلاب على الثورة وشعاراتها،
كما كانت "البورقيبية" مدخلا ملكيا لإفشال الانتقال الديمقراطي في
المستوى السياسي، وتحويلا للثورة إلى مشروع إصلاحي في سقفه الأعلى. وبحكم موازين
القوى بين الفاعلين الاجتماعيين وارتباط أغلبهم بالمنظومة القديمة، فإن الإصلاح
السياسي ذاته أصبح أفقا بعيدا، فما بالك بالإصلاح الاقتصادي أو الاجتماعي أو
القيمي.
ولأننا
لا نطرح على أنفسنا في هذا المقال دراسة نسقية لأسباب فشل عشرية الانتقال
الديمقراطي أو ما يسميه خصومها بـ"العشرية السوداء"، فإننا سنكتفي
بالقول بأنها كانت في جوهرها لحظة "بورقيبية"؛ سواء من جهة خضوعها للنواة
الصلبة للمنظومة القديمة أو من جهة خياراتها الاقتصادية والثقافية الكبرى (الصلح
الاقتصادي مع رموز الفساد في المنظومة القديمة؛ رفع الاحترازات على اتفاقية سيداو؛
تقنين نشاط المثليين؛ تضخيم الصراعات الهوياتية؛ تحديد "العائلة
الديمقراطية" بالتعارض مع الإسلام السياسي لا بالانحياز للمشروع المواطني
والاعتراف بالإرادة الشعبية؛ ربط التنوير والتقدمية بمشروع التغريب؛ إخراج ملفات
معينة من دائرة السجال العمومي مثل ملف الجهوية أو ملف الأحوال الشخصية أو ملف الاقتصاد
الريعي ووصم من يطرحها بالشّعبوية أو بالتطرف أو بتهديد" النمط المجتمعي
التونسي" والخروج عن "السياق الوطني"، على حد عبارة أحد رموز
اليسار الوظيفي).
رغم
أن الثورة التونسية قد دفعت بالعديد من الأطراف المحافظة أو ذات العلاقة النقدية بـ"البورقيبية"
إلى مركز الحقل السياسي، ورغم أنها قد دفعت أيضا بالعديد من القوى اليسارية
الراديكالية إلى مراكز متقدمة في دوائر صنع القرار، فإنّ الصراع السياسي قد انحرف
عن مداراته الاقتصادية والاجتماعية إلى مدار "الهوية"، وهو ما نقل
الصراع من دائرة المواجهة للمنظومة القديمة إلى دائرة المواجهة البينية بين
خصومها.
لقد
نجحت "الدولة العميقة" عبر أذرعها الإعلامية والنقابية والمدنية
والحزبية والمالية في إفشال أية إمكانية للالتقاء بين خصومها، وجعلت من بناء
"الكتلة تاريخية" بين
الإسلاميين واليساريين حلما من أحلام اليقظة، بعد
أن كان كابوسا يهدد مصالحها المادية وما يؤسسها في المستوى الرمزي أو الأيديولوجي.
وكان فشل "الكتلة التاريخية" يعني انتصار البورقيبية وورثتها الذين
تحولوا إلى نقطة جذب أساسية لكل الفاعلين يمينا ويسارا: نقطة جذب للنهضة الباحثة
من جهة أولى عن "الاعتراف" بنجاحها في مشروع "التَّونسة"،
والمتوجسة خيفة -من جهة ثانية- من استراتيجيتي الاستئصال الناعم والصلب ومن العودة
إلى مربع الملف الأمني-القضائي؛ ونقطة جذب لليسار الباحث عن سند "تجمعي
جديد/دستوري" لمواجهة "الرجعية الدينية" باعتبارها ما زالت
تمثل-حتى بعد الثورة- التناقض الرئيس والمطلق مع مقولات اليسار، بينما يمثل ورثة
التجمع (الرجعية البرجوازية) التناقض الثانوي والجزئي.
بعد
أن نجح "تصحيح المسار" في إنهاء الديمقراطية التمثيلية وتهميش أجسامها
الوسيطة بمختلف مرجعياتها
الأيديولوجية باعتبارها "خطرا جاثما"، وبعد أن
طرح على نفسه إعادة التأسيس "الثوري" في إطار "حرب التحرير
الوطني"، فإن من حقنا أن نتساءل عن علاقة هذا المشروع بـ"البورقيبية"
باعتبارها هوية ملتبسة أو مزدوجة: أولا البورقيبية باعتبارها أيديولوجيا تأسيس
الدولة-الأمة وتحرير المجال الوطني من الاستعمار المباشر في إطار مشروع تحديثي
تنويري على النمط اللائكي الفرنسي؛ ثانيا البورقيبية باعتبارها أيديولوجيا منظومة
الاستعمار الداخلي، وباعتبارها "الخطاب الكبير" الذي أفشل عشرية
الانتقال الديمقراطي، ومثّل القاعدة الخلفية لكل مشاريع الانقلاب على أي تفاوض
جماعي على شروط العيش المشترك وبناء مقومات
السيادة بمختلف أشكالها؛ بعيدا عن منطق
الإكراه السلطوي وإملاءات الجهات المانحة/الناهبة.
قد يكون على "تصحيح المسار" -إذا ما أراد أن يكون في مستوى ما يطرح من "التأسيس الثوري الجديد"- أن ينزع القداسة عن "البورقيبية" وأساطيرها التأسيسية، تلك الأساطير التي تحولت إلى غطاء أيديولوجي وظّفته منظومة الاستعمار الداخلي لإفشال الانتقال الديمقراطي، ولن تتردد في توظيفه لإفشال "تصحيح المسار" ذاته إذا ما رأت فيه تهديدا جديا لمصالح نواتها الصلبة ومصالح رعاتها الأجانب
إذا
كانت الديمقراطية المباشرة أو المجالسية تفترض وجود مسافة من البورقيبية باعتبارها
سردية سياسية منتمية إلى الديمقراطية التمثيلية، وإذا كان "التأسيس الثوري
الجديد" يعني بالضرورة بناء نظام سياسي على ركائز فكرية ومؤسساتية مختلفة عن
التأسيس البورقيبي ومشتقاته قبل 14 كانون الثاني/ يناير 2011 وبعده، فإن ذلك كله
لا يعني ارتفاع اللبس في علاقة الرئيس ومشروعه السياسي بالبورقيبية.
فرغم
أن الرئيس كان ينتقد أولئك الذين "يذهبون إلى قبر بورقيبة ليس حبا فيه بل
بحثا عن مشروعية سياسية في رفات الموتى"، ورغم دعوته للتعامل الموضوعي مع
البورقيبية -أي الاعتراف بمحاسنها وسيئاتها- فإن إكراهات السلطة، خاصة فيما يتعلق
بأيديولوجيا الرأسمال البشري المتحكم في مراكز السلطة، قد جعلته يخفف من حدة النقد
الموجّه إلى "الزعيم". وهو خيار يكاد يحوّل "تصحيح المسار"
إلى سردية سياسية مختصة في النقد الجذري لما بعد الثورة أو لعشرية الانتقال
الديمقراطي دون أصولها أو أسبابها العميقة.
إن
اعتراف الرئيس
قيس سعيد بوجود سلبيات في البورقيبية هو خطوة ضرورية لمساءلة
الميراث البورقيبي، ولكنّ نجاح تلك المساءلة يرتبط بتحديد السلبيات وآليات إصلاحها
وتجاوزها. فالبورقيبية تاريخيا لم تكن فقط مشروعا للتنوير وللتحديث (التعليم،
تحرير المرأة، الصحة.. الخ)، بل كانت أيضا مشروعا للحكم الفردي مدى الحياة (عبادة
الزعيم)، كما كانت البورقيبية نواة المنظومة الريعية-الجهوية-الزبونية للأنظمة
الحاكمة قبل الثورة وبعدها، وكانت الأيديولوجيا التي هندست الفضاء العام والمجال
الخاص بصورة تستحق مراجعات جذرية.
فما
يسمى بـ"النمط المجتمعي التونسي" الذي أسسته البورقيبية فكريا ومخياليا
(وهو في الحقيقة تَونسة مشوهة وانتقائية لمبادئ الثورة الفرنسية وقيم جمهوريتها)
هو خيار بشري لا قداسة له. وقد يكون على "تصحيح المسار" -إذا ما أراد أن
يكون في مستوى ما يطرح من "التأسيس الثوري الجديد"- أن ينزع القداسة عن "البورقيبية"
وأساطيرها التأسيسية، تلك الأساطير التي تحولت إلى غطاء أيديولوجي وظّفته منظومة
الاستعمار الداخلي لإفشال الانتقال الديمقراطي، ولن تتردد في توظيفه لإفشال
"تصحيح المسار" ذاته إذا ما رأت فيه تهديدا جديا لمصالح نواتها الصلبة
ومصالح رعاتها الأجانب.
x.com/adel_arabi21