قضايا وآراء

العنبرة في شاوشانك.. يوميات معتقل (13)

ماهر البنا
"الإبداع الحصري للسجناء من داخل السجن"- جيتي
"الإبداع الحصري للسجناء من داخل السجن"- جيتي
تعرف حكاية العنبرة دي يا عم ماهر؟.. (سألني سيف كعادته في البحث عن الأصول الثقافية والتاريخية لأي شيء).

قلت: مش بالظبط..

وأضفت مبتسما: مجرد معلومات عامة مش هتشبع نهمك الثقافي..

سيف شاب تروتسكي وسيم ومثقف ومتأنق في ملبسه وحديثه وسلوكه مع الجميع، وقد نشأت بيني وبينه صداقة وثيقة امتدت لما بعد السجن، وكانت لديه كراسات يدوّن فيه ملاحظات وتأملات غاية في الدقة والرقة معا، وسوف يأتي الوقت الذي أكتب عنه وعن كتاباته بالتفصيل، لكنني في هذا المقال أواصل الحديث عن فن "العنبرة"، باعتباره الإبداع الحصري للسجناء من داخل السجن.

قلت لسيف محاولا الاجتهاد في تقديم إجابة من الذاكرة: ممكن نفكر سوا ونوصل للإجابة مع بعض؟

قال: ده حلو جدا.. ياللا بينا.

قلت: فاكر فيلم "أمير الانتقام" نيخة أنور وجدي؟

- فاكره طبعا..

* حسن الهلالي كان بيحفر جدار الزنزانة عشان يهرب من معتقل المغول، وبعد أيام من الحفر سمع طرقات بحجر على الجدار اللي بيحفر فيه، شعر بالأمل والفرح، أخيرا وجد إنسانا حيا يتواصل معه غير الحراس، فرد على الطرقات بطرقات، واستمر التواصل بين السجينين عن طريق الطرق على الجدار، برغم صدمة الهلالي بأنه كان يحفر جدارا يوصله إلى زنزانة أخرى، وليس إلى الحرية التي ينشدها. وهذا يثبت أن التواصل الإنساني له دور عظيم في حماية الإنسان من الانهيار، وقيمته لا تقل عن قيمة الحرية، لذلك لم يستسلم الهلالي لليأس الذي أصابه بعد رميه في المعتقل النائي في الصحراء، واستمر يحفر بحماس حتى صنع فتحة بين الزنزانتين تسمح بلقاء السجين الآخر. وفي رأيي أن تلك الطرقات وتلك الوصلة بين زنزانتين هي الجوهر الأساسي في تعريف العنبرة، وأقصد بذلك وظيفة الاتصال والتواصل التي تدعم بقاء الإنسان حيا وتمنحه الأمل ومعنى الحياة.

- ده خيال درامي في فيلم يا عم ماهر، لكن هل الإحساس ده واقعي وله نفس الأهمية في السجون؟

* قرأت منذ فترة ليست بعيدة دراسة شيقة عن "العنبرة" في سجون بولندا في فترة القمع الستاليني.

- أنا بكره ستالين، الله يلعنه، اغتال العظيم تروتسكي.

* (ضحكت) ماشي يا سي سيف.. نكمل كلام في العنبرة، وللا نلعن ستالين سوا؟

- لأ.. نكمل، بس هوه فيه "عنبرة" في بولندا يا عم ماهر؟

* بالمعنى المجازي يا سيف.. المقصود حالة التعبير والتواصل بين السجناء من داخل العنابر، وأول شيء أدهشني في الدراسة أن التواصل بين السجناء كان يتم بالطرق على الجدران باستخدام (إشارات موريس)، وسبب الدهشة ان مفيش لغة ولا أي وسيلة لتواصل السجناء المحبوسين في زنازين انفرادية بلا أي فتحات، لكنهم استخدموا الطرقات باعتبارها لغة توصل الأخبار والرسائل. وذات مساء سمعت إحدى السجينات طرقات على جدار زنزانتها تخبرها بأن المحكمة قضت اليوم بإعدام خمسة من زملائهم المعارضين. وأتذكر جيدا أن السجينة (واسمها تقريبا إيفا لوكوفيتش*) قالت لنفسها: "الظلام الذي يحبسنا بداخله، لن يدوم إلى الأبد"، ونسجت في ذاكرتها قصيدة شفوية دونتها بعد ذلك بعنوان "لما أخبرني الجار من خلف الجدار".

- إزاي كانوا بيفهموا معنى الطرقات؟ وإمتى اتعلموا اشارات موريس؟(*)

* أنا قلت لك اللي فاكره حسب ذاكرتي، ولما نخرج نتقابل وندقق المعلومات بالرجوع لمصادرها.

- طيب عاوز أسالك عن أشهر عنبرة تعرفها؟

* طبعا عنبرة الفاجومي أحمد فؤاد نجم في أول حبسة اللي بيقول فيها:

أعرّفكم جميعا إن السجن سور/ وأعرفكم جميعا إن الفكرة نور
أعرّفكم جميعا إن الظلم شايخ/ وأعرَفكم جميعا إن باب السجن خايخ
أعرفكم جميعا إن ما لوهش أوكرة/ وأعرفكم جميعا إنه ح يبقى ذكرى
وأبَشّركم جميعا إن الوِعْدَة بُكرَة/ والنور عندنا وعندكو يا حبايب

- فيه حاجات تانية مشهورة؟

* أكيد حاجات كتير لكن محتاجة تذكير ورجوع للمصادر لتوثيقها، لأن النصوص متنوعة وأساليب إلقاء العنبرة مختلفة، يعني من "النضارة" على عموم العنابر، زي ما سمعنا شرابية امبارح، أو احتفالات داخل العنبر زي اللي بيعملها عندنا "الشريف محمد" و"هيدرا" و"جاسر" (سأكتب عنهم لاحقا)، وأحيانا قصائد مكتوبة لا يلقيها صاحبها إلا على زملاء الزنزانة، ثم تنتشر بعدها عن طريق الحفظ والنقل الشفوي وانتحالها في الغالب ونسبتها لكثير من السجناء، كما هي بنصها، أو بالتحريف والإضافة والحذف، أو بالتلحين والغناء كما حدث مع عنبرة "فؤاد حداد" ليلة الاحتفال بالقيادي الشيوعي زكي مراد في سجن الواحات، حيث كتب "الليلة يا سمرة" ولحنها أحمد منيب وغناها محمد حمام في المعتقل، ثم صارت واحدة من أشهر الأغاني بعد أن غناها محمد منير، ولم يعلم معظم مستمعيها أنها في الاصل "عنبرة سجين"!

- (يرفع حاجيه وتلمع عينيه وهو يقول) حلوة المعلومة دي، فيه "عنبرات" تانية بنسمعها وما نعرفش انها عنبرة؟

* كتير بس أنا عندي قصة طويلة وخطيرة ومثيرة عن عنبرة كتبها سيد حجاب لما اعتقل في خريف عام 1966، والطريف فيها أن سيد حجاب مكانش بيقولها بس كان يسمعها مع المساجين كل يوم في ميكروفون السجن، بعد أن تحولت من عنبرة تتحدى التعذيب والأشغال الشاقة للسجناء إلى أغنية وطنية عن بلدنا و"جمال بلدنا"، باعتبار أن تعبير "جمال بلدنا" مديح ومغازلة للرئيس جمال عبد الناصر، فقد تسربت العنبرة إلى خارج الأسوار وغناها المطرب عبد اللطيف التلباني، وكثفت الإذاعة بثها كأغنية شعبية وطنية تبدأ بمطلع شاعري من وحي المكان اللي احنا محبوسين فيه.

- كانوا هنا في المزرعة السعيدة (يضحك)؟

* في نفس السجن، واحتمال في نفس العنبر.

- مش فاكر التلباني ده، بس لو قلت الأغنية ممكن أعرفها؟

* يا ما زقزق الإمري (القِمري) على ورق اللمون
عشان بلدنا يا وله (يا ولد) وجمال بلدنا يا وله كله يهون

- فين الأشغال الشاقة في الكلام ده؟

* كوبيليه بيقول فيه:

شيّلني شيّل يا وله / على كل كتف أشيل جبل
شيلني شّيل يا جدع/ عمر الكتاف ما هتنخلع

- ده على اعتبار انهم كانوا بياخدوهم الجبل يكّسروا حجارة وينقلوها زي ما بنشوف في الأفلام القديمة؟!

* ده الكلام اللي اتقال فعلا عن الأغنية، لكن مش دي الحقيقة بالظبط، خلينا نكمل ونرجع للقصة دي وقت تاني.

- طيب بما إنك قلت إن السجناء السياسيين في بولندا كان عندهم عنبرة، يبقى الموضوع عالمي بقى، ويخليني أسألك: إيه في رأيك أشهر عنبرة في العالم؟

* نرجع تاني للدراما.. شوفت فيلم "الهروب من شاوشانك"؟

- طبعا ده أشهر فيلم في العالم.

* تمااام.. عشان كده العنبرة اللي فيه تبقى أشهر عنبرة في العالم.

- لأ بقى.. أنا حافظ الفيلم مشهد مشهد.. مفيش فيه أي عنبرة.

* عشان بتشوف "أكشن" مش فن/ طبيعي حاجات كتير تفوت عليك.

- دي إهانة يا عم ماهر.. بس لو أقنعتني أن الفيلم فيه عنبرة يبقى عندك حق.

* لما المحاسب آندي قدم خبرته لإعفاء ضباط السجن من الضرائب، وظفوه مساعدا لأمين المكتبة.

- بروكس العجوز المسكين.

* أيوه "بروكس" أقدم سجين في شاوشانك، اللي تم الإفراج عنه بعد 50 سنة حبس، وبعد أيام لم يتحمل الحربة فأرسل رسالة لزملائه في السجن يودعهم وشنق نفسه، بعد أن حفر بالمطواة على العارضة الخشبية التي علق عليها حبل الشنق: "بروكس كان هنا"..

انتحار بروكس هز مشاعر معظم السجناء خاصة آندي وصديقه ريد، الذي ظل يسأل في حزن: لماذا ينتحر بعد أن حصل على الحرية التي نتمناها جميعا؟
يجيبه آندي: انتحر لأنه مع الوقت صار ينتمي إلى المؤسسة.. عاش هنا ولم يتصور أي حياة غير الحياة الرتيبة الآمنة التي تعود عليها في السجن: طعام وطاعة وأيام مكررة لا تستدعي قلق ولا تفكير في الغد..

كان آندي يقاوم بكل قوة شعور الخضوع للمؤسسة ويحافظ على آماله كإنسان حر ينتمي إلى البحر والفضاء المفتوح وليس إلى السجن وقواعده، ووفاء لوعده مع بروكس بدأ في تحسين المكتبة عن طريق كتابة الكثير من الرسائل لجهات متعددة يطلب التبرع بالكتب والمواد الثقافية، وبعد أسابيع من التجاهل وصله طرد من إحدى الجهات، واستدعاه مأمور السجن لتسلم الطرد بعد أن ينجز عمله في تسوية حسابات التهرب الضريبي للمأمور، الذي تركه في المكتب وخرج يتفقد السجن.

أثناء فحص آندي لمحتويات الطرد وجد اسطوانات موسيقية، أخرج واحدة ووضعها في الجرامافون الخاص بالمأمور فانسابت موسيقى موتسارت مع صوت ماريا كالاس في أغنية مبهجة من أوبرا "زواج فيجارو"، تفاعلت الموسيقى مع النفس التواقة للحرية، فتوجه آندي إلى ميكروفون الأوامر في مكتب الغدارة وفتح كل الأبواق لتنساب الموسيقى عالية وتفرض الدهشة على السجناء والصدمة للإدارة والحراس الذين هرعوا باتجاه المكتب لمعرفة ما يحدث وإيقاف المهزلة، لكن آندي كان قد أحكم إغلاق الباب من الداخل وجلس على المقعد مسترخيا يستمتع بالموسيقى وشعور الحرية. وبرغم الطَرق العنيف والتهديد، لم يفتح آندي الباب حتى كسروه وانهالوا على السجين المتمرد بالضرب العنيف وألقوا به في زنزانة التأديب الحقيرة.

الرسالة التي أعلنها آندي في الميكروفون على مسامع كل السجناء والإدارة بصوت أعظم مغنية أوبرا في العالم، هي "صوت السجين في مواجهة السجن"، وهذا كما اتفقنا هو جوهر العنبرة، فالمهم هو رسالة السجين للعالم من حوله، سواء كانت بالكلمات، أو الموسيقى، أو الخربشة بكلمات الذكرى "فلان كان هنا"، أو الطرق على الجدران.

- تعظيم سلام يا عم ماهر.. عندك حق أنا لسه صغير وبتفوتني حاجات كتير، تعرف يا عم ماهر انك عملت لي مشكلة.

* خير يا سيف

- كنت بحلم طول الليل والنهار بلحظة خروجي من السجن، من ساعة ما عرفتك، وأنا وقعت في ورطة، نفسي أخرج.. بس هزعل لو بعدت عنك، أقول تخرج انت، برضه هنفترق، أنا عاوز أفضل معاك وعاوز الحرية في نفس الوقت.

* لسه ما فهمتش يا سيف؟.. انت هنا حر بس داخل الجدران مؤقتا، أوعى تفكر ان حد يقدر يسرق حريتك، إلا إذا تنازلت عنها انت الأول.. فكّر زي آندي والإمام أحمد بن حنبل: "حرية المؤمن في قلبه يحملها أينما كان، وأينما ذهب".

وفي المقال المقبل نواصل يوميات المعتقل..

(تصحيح بعد الرجوع للمصادر):

* الشاعرة البولندية اسمها "إيفا ماريا لودكيفيتش"، وقصتها وردت بالتفصيل في كتاب لسجينة أخرى هي "باربرا أوتوينوفسكا، نشر عام 1995 تحت عنوان "ضد الشر.. قصائد وأغاني السجن"، ويتضمن مع الحكايات نصوص 340 قصيدة جمعتها من سجناء وسجينات طوال ثلاث سنوات بعد الإفراج عنها.

* بخصوص سؤال سيف: كيف تعلم السجناء التواصل بالنقر على الحوائط عن طريق "شيفرة مورس"، تقول الدكتورة "أنا ميللر" الأمريكية بولندية الأصل وأستاذة التاريخ بجامعة ميتشيجان، ومؤلفة كتاب "إن تكلمت الجدران.. قصص من داخل السجن في بولندا الشيوعية": كانت "أبجدية مورس" معروفة ومنتشرة في السجون، خاصة بين السياسيين، البعض تعلمها أثناء فترة تجنيده في الحرب العالمية الثانية، والباقي تعلمها في السجن، إذ كانت تُنقش بواسطة السجناء في المراحيض وفوق خشب الأسرة وتتكرر في أماكن مختلفة بالحفر، لأنها كانت -في ذلك الوقت- الوسيلة الوحيدة للتواصل بين سجناء في زنازين متجاورة.

[email protected]
شخشخ جبالك يا طُرَة.. يوميات معتقل (12)
كثير من الأشواك قليل من القرنفل.. يوميات معتقل (14)
التعليقات (0)