مقالات مختارة

آلة الدولة الجهنمية: كيف قادت مصر إلى الانهيار الممنهج؟

يحيى مصطفى كامل
جيتي
جيتي
لا أرى أمام المواطن، أو المتابع للشأن المصري إزاء الواقع المدهش سوى خيارين: إما التجاهل التام، وهو ما أظنه مستحيلاً على الأقل في حالة المواطنين، أو الوقوع فريسة لحالة الذهول الغاضب للتردي المستمر والتدمير الذي لا يوصف، سوى بالمتعمد والممنهج للتراكم الحضاري للشعب المصري.

أحياناً كثيرة يبدو كما لو كان السيسي يتعمد أن يدمر كل القيم الجمالية المرتبطة بذكريات الناس، كل ما جعل من مصر (تاريخياً على الأقل) ما هي في عقول الناس ووجدانهم؛ كأن الواقع الراهن بصعوباته الاقتصادية الطاحنة وإهاناته المستمرة لم يكفه، فهو يحرم الناس من ذكرياتهم، والأماكن التي ربما ارتبطت في مخيلتهم وذاكرتهم بأيامٍ أفضل.. أسعد وأبهى.

من الجائز تماماً أن أزعم بأنني أعبر عن مشاعر ملايين أكثر من أن يُحصوا، حين أقرر أن الخوف من الغد، مما يحمله، والخوف على الغد صارا القاسم المشترك والشغل الشاغل للسواد الأعظم، والأغلبية الساحقة من الناس، فهم ما لم يختاروا التعامي، أو تعليل النفس بالأماني، يكادون يوقنون بأن المقبل أسوأ وهذا ما يرعبهم، فمن لا يجد سيزداد فقراً وجوعاً و»المستور» سيتعرى والموسر سيعسر، ولا أحد يعرف أين سيتوقف ذلك الانهيار وهذا السقوط.

لعل سؤالاً لا يتردد مثل: ماذا سيبيع السيسي اليوم ولأي دولةٍ خليجية؟ فالشاهد جهاراً نهاراً أنه، جاراً معه البلد، غارقٌ موحولٌ في ديونٍ لا آخر لها، ويركض يائساً في كل الاتجاهات للوفاء بقيمة فوائد هذه الديون المستحقة.
كيف تمكن السيسي من كل هذا التخريب دون عراقيل أو موانع دون أن يتدخل أحد لإيقافه؟

بالطبع لا نعني هنا تلك الخمسة في المئة، أو نحوها، التي لا يعتني النظام سوى بها ولا يرى سواها، ولعلنا أيضاً لا نتجاوز الصواب حين نقول إنه باستثنائها فإن السيسي وحّد قرابة الخمسة وتسعين في المئة الباقين على اختلاف طبقاتهم في الخوف من بطش آلة عنف النظام ومن المستقبل.

كامتدادٍ منطقي للتدهور والانهيار المذهلين، يلح على الناس سؤالان: كيف تمكن السيسي من كل هذا التخريب، دون عراقيل أو موانع، دون أن يتدخل أحد لإيقافه؟ ثم أليس مِن حوله على الأقل ناصحون أو رجلٌ واحدٌ (إن لم نقل رجال) رشيد؟ الإجابة على السؤال الثاني سهلة ومباشرة لا تحتاج إلى جهد، فهي بالنفي: لا، ليس حوله راشدون، وإن وُجدوا، باعتبار أن حماقةٍ كتلك لا تتكرر، فهم يؤثرون الصمت خوفاً وطمعاً، وقد فهموا جيداً طبيعة هذا النظام ورأس هذا الرجل المعتمة تماماً.

أما الإجابة على السؤال الأول، فأعقد وأهم، فالمشكلة ليست في السيسي ولكن في «الآلة» أو جهاز الدولة ذاك الذي مكنه من الوصول إلى غاياته وتنفيذ كل تصوراته وتحقيق كل ما يتراءى له، أو يفرقع في رأسه، المرتبكة محدودة الثقافة والمعرفة تماماً كما بتنا نعرف جيداً.

الآلة الجهنمية
للقمع وتقديس، بل تأليه الحاكم، ميراثٌ طويل في مصر، منذ عصورٍ سحيقة مما ليس هنا المجال للاستفاضة فيه، لكن يكفي هنا أن نلفت الانتباه إلى أن مصر، الخارجة من الحقبة المملوكية، سواء المستقلة، أو في ظل الحكم العثماني ومن ثم الفترة الأولى من حكم الأسرة العلوية، وعلى الرغم من الأشواط التي قطعتها عبر النضالين الفكري والسياسي، للفوز بالحريات السياسية والديمقراطية، كان ما يربطها بماضيها الطويل أعمق وأقوى مما يشدها للمستقبل؛ تحت غطاءٍ من المكاسب في القضية الوطنية، حقيقية أم مبالغا فيها، والمشاريع ذات البعد الاجتماعي عمد عبد الناصر إلى تأمين انقلابه، أو ثورته، سمها ما شئت، بإزاحة كل معارضيه حتى من لم يحمل منهم السلاح، ولم يُعرف له تاريخٌ من العنف ( أي جل القوى السياسية من الناحية الفعلية) بتصويرهم كرواسب ومخلفاتٍ من عهدٍ بائسٍ وفاسدٍ على الإجمال.

قد كان عبد الناصر المؤسس الحقيقي لهذه «الآلة الجهنمية» باعتمادها على الأمن وضرب المعارضين ومفردات ومفاهيم «الحشد» والاصطفاف إلخ، أي أن يصطف الجمهور ويتماهى مصفقاً للزعيم. قد يعترض علينا البعض بأن الأمن لم يتغول في عهده إلى هذا الحد، وأن السياسة لم تنعدم، وهو كلامٌ له وجاهته، لكن الرد عليه بأن مصر التي قاد فيها انقلابه كانت فيها قوى سياسية حقيقية ذات تاريخ، وبالتالي فإن تجفيفها ومحو أثرها يحتاج إلى عدة أجيال، وهو ما حدث بالفعل على يد من خلفوه.

لقد ترسخت على عهده تلك الآلة اللعينة التي تتيح للرئيس ذي الخلفية العسكرية أو مؤسسة الرئاسة سلطاتٍ لا حد لها، كلية القدرة والمنعة، وإذ جاء السادات، فقد مسح خط عبد الناصر، وعكس انحيازه الاجتماعي تماماً (رغم المعارضة الشرسة) مستغلاً هذه الآلة الباطشة، ولم يشذ مبارك عن ذلك. حتى وصلنا إلى السيسي، ورث هذه الآلة المضرجة بالدماء، وأضاف لها كل سلفٍ شيئاً أو أشياء، فباتت متضخمةً عابثةً منفلتةً بذيئة، لا تقيم وزناً لقانونٍ ولا قيمة وعلى رأسها الحياة البشرية.

ورث مجتمعاً مرهقاً ممزقاً مهترئاً مفقراً، ولما لم تأت الثورة بثمارها لأسباب متعددة، معقدة ومتشابكة لم يكن العسكر بعيداً عنها على الإطلاق، فقد زاد ذلك من يأس ذلك المجتمع وضعفه وقابليته للمزيد من الاستلاب والاستكانة لقهر هذه الآلة.

لا شك بأن ظاهرة القهر معقدة ذات آثارٍ نفسية عميقة ومترسخة، بفعل قرونٍ منها بما يؤهلها ويؤدي بها إلى إعادة إنتاج نفسها، لكنني لا أجد تفسيراً أكثر قدرةً على الإقناع لظاهرة السيسي، وما يأتي به من تصريحاتٍ ملغزة وتفكيكٍ ممنهجٍ للمركب المصري الذي ظل متماسكاً، على الرغم من كل ما مرّ به سوى آلة الدولة هذه.

ما يحدث في مصر عجبٌ عُجاب، وكلماتٌ كالدهشة والذهول لا تكفي للتعبير عن مشاعرنا وعجبنا من كيف تمكن شخص محدود القدرات متدني مستوى الذكاء والمعرفة، مفتقد الكاريزما، ثقيل الظل فوق ذلك، من إنفاذ قراراته وتمرير كل ما يريد دون مقاومةٍ تذكر. لن أملّ من التأكيد كون هذه الآلة اللعينة، الدولة بجهازها القمعي، هي منجز عبد الناصر ويوليو الأهم والأبقى، ظلت تعمل بسلاسةٍ كآلةٍ تصان وتُشحم وتزيت جيدا؛ تتغير السياسات والانحيازات وتظل هي عنصر الاستمرارية والرابط، قلب النظام وجوهره، وبالقدر نفسه الذي يتدهور فيه المجتمع، كانت تتضخم وتتشعب.

على شح ذكائه فهم السيسي ذلك، وقام بخدمة تروس هذه الآلة عن طريق المنح الطائلة للضباط، وإطلاق العنان لهم بالإثراء والانتقام ما شاؤوا دون مساءلة، فانصاعت الآلة له تماماً.

من هنا أيضاً نفهم الخطأ أو القصور الجوهري في ما حدث في يناير، وما قد يتكرر في أي حراكٍ مقبل، بما قد يؤدي له ذلك من تكرار الفشل: هو عدم إدراك طبيعة هذه الآلة.

لكي يحدث تغييرٌ ذو معنى في مصر لا تكفي إزاحة رأس النظام، بل لا بد من تدمير هذه الآلة. لكي تكون الثورة ثورة فلا بد من تفكيك آلة الدولة في مصر، لا بد من ضرب عقدها العصبية وإزاحتها تماماً وإعادة بناء جهازٍ جديد لدولةٍ عصريةٍ جديدة بهيكل وصلاحياتٍ تخضع للمراقبة الشعبية وسلطة القانون ولا تسمح بإعادة إنتاج القمع والسيطرة الكاملة، ودون هذا فلن تكون الحراكات الشعبية سوى فوراناتٍ وقتية سرعان ما تنحسر ليعود القمع أشد.

لست مزايداً على أحد كما أدرك أن هذه مهمةٌ شاقة وعسيرة، لكن كذلك أزمتنا، عميقة للغاية. هذه الآلة التي ورثت ما قبلها فزادت عليها، وكبرت وتضخمت وتغولت، صارت كجبلٍ يقف في طريق أي تطورٍ أو تقدمٍ حقيقي، ولا يمكن الالتفاف حولها كما أثبتت الأحداث منذ يناير.

كل الشواهد والتحليل المنطقي يؤدي إلى استنتاجٍ أن الوضع مرشحٌ للقلاقل وانفلات تعبيراتٍ عن التذمر والسخط؛ لن أجزم بثورةٍ فمن الصعب التنبؤ بها بثقة، خاصةً في ظل ما أعقب يناير من إحباط، لكن في كل الأحوال سيزداد دور هذه الدولة وضوحاً وقد تكون تلك البداية المرجوة لمجابهتها ومن ثم الإطاحة بها مهما طالت هذه المسيرة وكلفت.

القدس العربي

التعليقات (0)

خبر عاجل