كتاب عربي 21

الأمريكان وديمقراطية التهريج

جعفر عباس
ما يسميه الأمريكان بالتقاذف بالطين mudslinging ليس غريبا على المشهد الانتخابي الأمريكي، ولكن ليس إلى الدرك الذي هوى به الحوار بين المرشحين في الانتخابات الحالية..
ما يسميه الأمريكان بالتقاذف بالطين mudslinging ليس غريبا على المشهد الانتخابي الأمريكي، ولكن ليس إلى الدرك الذي هوى به الحوار بين المرشحين في الانتخابات الحالية..
ظللت أتابع فعاليات الحملات الانتخابية الرئاسية في الولايات المتحدة ـ ما استطعت إلى ذلك سبيلا ـ خلال الأسابيع القليلة الماضية، ليس من باب "المواكبة الصحفية"، ولكن من باب الترويح عن النفس، ومن باب الشماتة في الأمريكان، لأن المتنافسين الرئيسيين في تلك الانتخابات طفوليون، ومتابعة محاولات كل مرشح لتسويق نفسه بالحط من قدر المرشح الآخر، تجعلك تعجب كيف يجوز للأمريكان الزعم بأنهم سدنة الديمقراطية، والحريات العامة، ووجود دونالد ترامب على رأس تذكرة الحزب الجمهوري، قمين بزيادة جرعة الهتر، والانحطاط بالحوار إلى مهاوي الصرف الصحي، وترامب كما قد يدرك كل ذي بصر وبصيرة، شخص هوائي لو رأى جنازة مهيبة لتمنى لو كان الميت.

كانت ضربة البداية في الانتخابات الرئاسية الأمريكية معتلة ومختلة، وكان هناك الرئيس الحالي جو بايدن على تذكرة الحزب الديمقراطي، ولكن كلماته وحركاته وسكناته أثبتت أن كهرباء دماغه مضطربة، وأنه لا يملك فضيلة التواضع التي تحلى بها الجاهلي الأمي زهير بن ابي سلمى، الذي وعندما بلغ العمر الذي يبلغه بايدن اليوم، هتف:

سَئِمتُ تَكاليفَ الحَياةِ وَمَن يَعِش
ثَمانينَ حَولاً لا أَبا لَكَ يَسأَمِ
رَأَيتُ المَنايا خَبطَ عَشواءَ مَن تُصِب
تُمِتهُ وَمَن تُخطِئ يُعَمَّر فَيَهرَمِ
وَأَعلَمُ عِلمَ اليَومِ وَالأَمسِ قَبلَهُ
وَلَكِنَّني عَن عِلمِ ما في غَدٍ عَم

في الثامن عشرين من تموز/ يوليو المنصرم فتح بايدن النار على خصمه ترامب، بلسان مضطرب، واستطاع الراصدون الصحفيون استخلاص ما يلي من أقواله: كان  ترامب رئيسا فاشلا، وحتى نائبه مايك بنس لا يؤيده... ترامب طفل جانح أدانته المحاكم...  ترامب أقام علاقة حميمة مع ممثلة أفلام إباحية اسمها ستورمي دانيلز، بينما كانت زوجته حاملا... أخلاقه كأخلاق قطط الشوارع. وهو أحمق وفاشل.

وجاء الدور على ترامب ملك الهتر بلا منازع، فكال السباب لهنتر نجل بايدن ووصمه بالإجرام، بعد إدانته بحيازة سلاح غير مرخص، وبما أنه مبدع الدين الجديد (الإبراهيمية)، الذي أراد به أن يدخل العرب في ملة إسرائيل أفواجا، فقد وصف بايدن بأنه فلسطيني ثم استدرك "بل فلسطيني سيء"، ولم ينس ترامب اعجابه خلال فترة رئاسته بنظيريه في روسيا وكوريا الشمالية، وقال إنه لو كان لأمريكا رئيس يستحق احترام الرئيس الروسي فلادمير بوتين، لما حارب الأخير أوكرانيا، "بل لما رأيت أنا ما يستوجب ترشيح نفسي للمنصب".

لا ترامب ولا هاريس يخاطب الناخبين في أمور الاقتصاد والأمن والخدمات والعلاقات الدولية، بل يتباريان في كشف سوءات بعضهما البعض الشخصية والأخلاقية، فيكون كل خطاب عام لهما، مما يسميه العرب ب"الخطب الجسيم".
ما يسميه الأمريكان بالتقاذف بالطين mudslinging ليس غريبا على المشهد الانتخابي الأمريكي، ولكن ليس إلى الدرك الذي هوى به الحوار بين المرشحين في الانتخابات الحالية، ففي عام 1796 نشرت صحيفة غازيت مقالا يكيل السباب للمرشح الرئاسي، توماس جيفرسون، بزعم انه يقيم علاقة جنسية مع خادمة في منزله، وكان كاتب المقال الكسندر هاملتون، الذي كان يشغل منصب وزير الخزانة وقتها، ثم كان التنافس على الرئاسة في عام 1800 بين جيفرسون وجون آدمز، الذي شهد تدنيا مريعا في لغة النقد السياسي، في أمور ونواح لا علاقة لها بالسياسة.

كان أداء بايدن في مناظرته مع ترامب بائسا، فانفض حتى أنصار حزبه من حوله، ثم أرغموه على الانسحاب من السباق الرئاسي، وصارت كمالا هاريس مرشحة الحزب الديمقراطي للمنصب، وعندها كان ترامب قد اختار جيه دي فانس ليخوض معه المعركة كنائب مرشح للرئيس، وكان اختيارا نمّ عن غفلة سياسية، وإفلاس في سوق المؤهلين لمناصب عليا في الحزب الجمهوري، فقد نبشت الصحف سيرة فانس، واستحضرت كلاما طفوليا وسوقيا قاله عن أنه يضاجع "الكنبة" في بيته، وأنه وفي انتخابات عام 2016 التي خاضها ترامب كتب مقالا صحفيا وصف فيه ترامب بأنه شخص بغيض، وهتلر زمانه، وأن كل ما ينطق به هيرويين ثقافي وأفيون، وقال من ثم إنه يقف ضد ترامب على الدوام.

ويبدو أن غواية المنصب الرفيع أنست فانس كل ذلك، وأثبت أنه ينتمي إلى مدرسة ترامب، وأنه يجيد قذف الخصوم بالطين الآسن، حتى وإن ارتد بعضه إلى وجهه، ففانس هذا يرى أن كمالا هاريس لا تصلح للجلوس في البيت الأبيض لأنها لم تنجب عيالا، بينما يرى ترامب أن هاريس انسانة متقلبة، فكما قال في حوار مع رابطة الصحفيين السود: كانت هاريس التي عرفتها لسنوات هندية، ثم صارت "سوداء".

ومن جانبها تحرص هاريس على الظهور كمرشح عف اللسان، ولا تجاري ترامب والجمهوريين في الهتر وساقط القول، وتكتفي بالتذكير بأنه مجرم مدان، وأن سجله كرئيس خال من الإنجازات، ولكن واقع الأمر هو أن هاريس تترك أمر قذف الطين على معسكر ترامب، لكتائب من الناشطين الإعلاميين، فباستثناء قناة فوكس، فإن جميع كبريات محطات التلفزة الأمريكية تناصر هاريس، وهناك عشرات القنوات في تطبيق يوتيوب تكيل السباب على مدار الساعة لترامب، وتذكر متابعيها بأنه كذاب وأفاك، ومنافق يعادي المهاجرين ومتزوج بـ "مهاجرة"، وغبي وعيي ونرجسي وذو سوابق إجرامية، "بينما كرست هاريس معظم سنوات عمرها عاملة في مجالا الادعاء العام للزج بالمجرمين في السجون".

والشاهد هو أنه لا ترامب ولا هاريس يخاطب الناخبين في أمور الاقتصاد والأمن والخدمات والعلاقات الدولية، بل يتباريان في كشف سوءات بعضهما البعض الشخصية والأخلاقية، فيكون كل خطاب عام لهما، مما يسميه العرب ب"الخطب الجسيم".
التعليقات (0)

خبر عاجل