قضايا وآراء

هل تنهي ملحمة الطوفان مأساة الإنسان الصفر العربي؟

أحمد القديدي
من غزة.. مسؤولة قطرية تدعو لتسريع دخول مساعدات إغاثية إلى القطاع- (الأناضول)
من غزة.. مسؤولة قطرية تدعو لتسريع دخول مساعدات إغاثية إلى القطاع- (الأناضول)
كل من شاهد وسمع السيدة لؤلؤة الخاطر يوم الأحد الماضي حين تكلمت من قلب غزة وهي وزيرة الدولة في الخارجية القطرية بتلك اللغة الصادقة قائلة للشعب الفلسطيني ومقاومته (لا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون والله معكم).. كل من كان أمام شاشة الجزيرة ساعتها أيقن أن تغييرا جوهريا يطرأ على الإنسان العربي وأن التاريخ ينعطف تدريجيا نحو فرض الحق.

كما أن فقرة قصيرة من مقال الزميل عادل بن عبد الله صدر على صحيفة "عربي21" الجمعة الماضي أعادت إلى ذاكرتي قضية (الإنسان الصفر) الفلسفية.

كتب الزميل عادل: "إن عملية طوفان الأقصى قد جاءت تطرح نفسها لحظةَ استئناف لمشروع التحرر من الاستعمار اليهو ـ مسيحي في شكله الإحلالي، أي لحظةَ قطيعة بين زمنين: زمن التطبيع والتذلل واتفاقيات السلام المخزية، وزمن المقاومة والعزة ومشروع استعادة الأرض بالقوة التي لا تنفصل عن مدد السماء (أي عن العقيدة)."

تذكرت فجأة أنه في أواسط الستينيات كتب الروائي التونسي عز الدين المدني في مجلة (الفكر) الرائدة رواية سماها (الإنسان الصفر)، وهي في نفس السياق الفلسفي لأدب الكاتب الوزير محمود المسعدي في روايته التي قدمها ونقدها عميد الأدب العربي طه حسين إبان صدورها، والتي تحمل عنوان (السد) ثم أتبعها برواية (حدث أبو هريرة)، وأصبح الكتابان منذ الخمسينيات من كلاسيكيات الأدب العربي والفلسفة الحديثة في برنامج المدارس الثانوية العربية.

أما (الإنسان الصفر) التي قرأناها وأحببناها فكانت قبل خمسين عاما استشرافا فكريا لما ستصبح عليه منزلة الإنسان بعد نصف قرن.. واليوم عام 2023 أستحضر ما جاء فيها من فقرات بقلم مبدعها لأننا بعد أن مررنا  بمأساة فيروس كورونا والتي لم تكن لها في فداحتها سابقة على مدى جيلنا وأجيال قبلنا ندخل محطة السابع من أكتوبر والتي تشكل عودة الوعي الإسلامي لأمة الإسلام وقدرة الشعوب المستضعفة على التصدي للإستكبار العالمي الغربي الذي تقوده أيديولوجيا المسيحية اليهودية المتطرفة العنصرية..

وندرك أن الأدب الحقيقي هو الذي يستشرف المصير بعيون المبدع ويتنبأ بالأحداث قبل وقوعها تماما كما فعل صاحب رواية (1984) الكاتب البريطاني (جورج أورويل) حين كتبها عام (1948) وكلتا الروايتين البريطانية (1984) والتونسية (الإنسان الصفر) تنطلقان من فكرة واحدة وهي أن هذا الإنسان الطاغي على الطبيعة والمتسلط بأجهزة الدولة الظالمة على غيره من البشر ما هو في الحقيقة سوى كائن هش يمكن أن يقع تحت سيطرة ما سماه (أورويل) بالأخ الأكبر، الذي بدعوى رعايته والحفاظ عليه يجعل منه عبدا مجهريا تحت الرقابة الشاملة لعدسة مكروسكوب يرصد كل تصرفاته وردود أفعاله وحتى أفكاره وأحلامه فيسارع (الأخ الأكبر) إلى مصادرتها وتحويرها وتوجيهها إلى خدمة مصالح المنظومة الرسمية الحاكمة في العالم (ما اصطلح على تسميتها بالنظام العالمي وهو نظام امتداد الاستعمار القديم بالاستعباد الجديد) تماما كما يقع اليوم في قطاع غزة أمام صمت أغلب الحكومات العربية والمسلمة المريب ماعدا ماليزيا بزعامة مهاتير محمد وباكستان حين حكم عمران خان وقطر بقيادتها منذ 1995 إلى اليوم ومعهم اليمن ولبنان والعراق.. (هذه الدول الثلاثة فيها مجموعات مقاومة مستقلة عن الدولة الرسمية).

وحسب الإنسان الصفر يبقى الإنسان صفرا بإرادته أو بدون إرادته وكذلك تتحكم فيه غرائزه البدائية وهو مستعد للقتل من أجل البقاء وفرض الاعتراف به في المجتمع وفي الأخير تلتقي الروايتان الإنجليزية والتونسية ليتحول المواطن الذي يعتقد أو يتوهم أنه حر إلى "إنسان صفر!".

"استعباد الفيروس للبشرية جاء تأكيدا لحكمة الفلسفة الوجودية لدى (جون بول سارتر) منذ الحرب العالمية الثانية والتي أثبتت لسارتر ومدرسته الوجودية أن الإنسان الغربي همجي وبربري قاتل لم تسعفه قرون من التنوير وميثاق حقوق الإنسان لدى جدوده (فولتير) و(روسو) و(مونتسكيو)، فبمجرد انتشار النازية الهتلرية والفاشية الموسولينية والاستبداد الستاليني الشمولي (واليوم طغيان إسرائيل بدون ضوابط ولا أخلاق!".
وتحاورت أنا مع زملاء مفكرين فرنسيين حين قضيت سبعة أشهر في بيتي مضطرا منعزلا بسبب إجراءات الحماية من تفشي وباء الكورونا في ضواحي باريس من مارس 2020 إلى أكتوبر 2020 متسائلين عن "العبودية" المستجدة التي مارسها ضد إنسانية الإنسان مجرد فيروس صحيح أنه قاتل وحصد ملايين الأرواح منذ انتشاره الرهيب لكنه لا يعدو أن يكون فيروسا بإمكان المرء القضاء عليه بمجرد الماء والصابون العادي..

وعلّق بعض المفكرين الفرنسيين بأن للوباء إلى جانب الكوارث قدرا من المضاعفات الإيجابية على أصعدة البيئة وإعادة الوعي بحتمية التضامن بين الشعوب وعلى الصعيد الفلسفي أيضا، حيث وضع الإنسان في موضعه الحقيقي الهش وأعاد طرح الأسئلة الوجودية الأساسية عليه حتى يدرك أن سلم الأولويات الذي حدده الانسان المعاصر لحياته هو خطأ في حد ذاته.. فليس جمع الثروة أو مراكمة الأملاك أو المزيد من القوة والهيمنة على غيره من الناس هي التي تمنحه السعادة بل إن صحته هي أصل كل سعادة وقد تعود على إهدارها واعتبارها أمرا ثانويا أمام اللهاث وراء الربح السهل من الحلال والحرام كأنه المقصود في كتاب الله العزيز بالآية: "وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَٰكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ ۚ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث ۚ ذَّٰلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا ۚ فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (176)" صدق الله العظيم.

وقال الفيلسوف الفرنسي (ميشال هومفريه) معلقا على هذه الظاهرة: "استعباد الفيروس للبشرية جاء تأكيدا لحكمة الفلسفة الوجودية لدى (جون بول سارتر) منذ الحرب العالمية الثانية والتي أثبتت لسارتر ومدرسته الوجودية أن الإنسان الغربي همجي وبربري قاتل لم تسعفه قرون من التنوير وميثاق حقوق الإنسان لدى جدوده (فولتير) و(روسو) و(مونتسكيو)، فبمجرد انتشار النازية الهتلرية والفاشية الموسولينية والاستبداد الستاليني الشمولي (واليوم طغيان إسرائيل بدون ضوابط ولا أخلاق!". فاندلعت في قلب الغرب أي أوروبا الحرب العالمية الثانية وهي الحرب الضروس التي ارتكبت خلال سنواتها الست أبشع جرائم الإنسان ضد الإنسان وكل الإبادات الجماعية الشهيرة منها إبادة اليهود على أيدي النازية الهتلرية وفرنسا الفيشية "نسبة إلى حكومة فيشي الموالية للألمان"..

أضيفوا لهذا كله فظائع الاستعمار الأوروبي في أفريقيا وآسيا وجرائم أمريكا في فيتنام وأفغانستان! وهو ما أنشأ أدب العبثية لدى (ألبير كامو) الفرنسي ولدى (فرانز كافكا) التشيكي! وهما أول من نظَّر (بتشديد الظاء) للإنسان الصفر الذي عشناه عام 2021 مع الوباء.. ومنذ 7 أكتوبر 2023 عاد لنا الأمل في نهاية الإنسان الصفر العربي وفي قدرته على مواجهة تطرف عنصري يحكم في الدولة العبرية بلغ عدد ضحاياه حوالي 20 ألف ثلثهم من الأطفال!
التعليقات (0)