(يسقط.. يعيش)
تغرق
مصر في مستنقع عفن من التفاهة، تفاهة لزجة تشبه
سوائل التقزز في أفلام الزومبي، حيث لا يمكنك الاختباء من المطاردة الملعونة، تفتح
التلفزيون فتهاجمك تفاهة البرامج الرديئة ونوعية الإعلاميين الموصولين بسيفونات
الأجهزة، تفتح الهاتف لتتصفح الأخبار فتشعر بالغثيان من أخبار مرتضى منصور ورضوى
الشربيني وياسمين عز والبتاعة بنت الباشمهندس، وتصريحات ضياء رشوان عن الحوار
الوطني، وكراريس الإملاء ودروس التربية الوطنية وشعارات الجمهورية الجديدة المحصورة
في ثنائية سمجة ومكررة على طريقة: "يعيش" السمك في الماء و"يسقط"
المطر من السماء، وملخص الترجمة باللغة "الرشوانية": "يعيش"
الرئيس أبو إنجازات "متلتلة"، و"يسقط" أعداء الرئيس الذين لا
يعترفون بديمقراطيته وإنجازاته وتخفيفه لأحمال المواطن..
(المتحولون)
لم أكن أرغب أبدا في التعرض لضياء رشوان بـ"السلب
العلني"، فأنا أتجنب الاشتباك مع نوعين من الناس: "الصغار" و"المعارف
القدامى"، وقد حزنت بشدة عندما فجعتني الأيام في صديق قديم كان كبيرا في
البال والقلب، ولما "بان".. "بان"، أي لما "افترقنا"
"ظهر"، حسب وصف كعب بن زهير لسعاد: ما تَدوم على حالٍ تَكونُ بِها "كَما
تَلَوَّنُ في أَثوابِها الغولُ"، ولا تمسك بالعهد الذي زَعَمَت "إلا كما
تُمسِكُ الماءَ الغَرابيلُ".
الدكتور رشوان ليس موضوع المقال، لأنه جمع الصفتين
التي أتجنب الاشتباك مع أصحابها، لكن المقال عن التفاهة التي تطاردنا في الشوارع
والبيوت والسياسات وتصريحات الحوار الوطني على طريقة: للمرأة حق الانتخاب سواء
كانت رجلا أو أنثى!
(الخنفساء)
عشت متيّماً بتمرد سيزيف ضد الآلهة، أعجبني فضحه
لزيوس، ولما حاكمه الإله الكبير بتهمة التسريبات ونشر أخبار كاذبة تسيء لسمعة رئيس
الأوليمب، انتهى سيزيف على السجن الأبدي في الجحيم. لكن المتمرد الملعون احتال على
حارس الجحيم وقيده بسلاسله وهرب، فطلب زيوس من "مارس" (إله الحرب ضد
الإرهاب) بمطاردة سيزيف والقبض عليه، وحكم عليه زيوس هذه المرة بدفع صخرة ضخمة لترسيتها
على قمة جبل، وكلما اقترب المحكوم من إنجاز المهمة تنفلت الصخرة بتدخل من زيوس
وتهوي على السفح، فيعاود سيزيف رفعها فتسقط من جديد، وبعد محاولات كثيرة اكتشف
سيزيف أن هذا هو سجنه الأبدي الجديد، لقد حكم عليه كبير الآلهة بإفناء حياته في
فعل عبثي مكرر بلا نتيجة ولا هدف..
عندما كتب ألبير كامو كتابه الشهير عن تمرد سيزيف،
أوحى إلينا أن المتمرد اكتشف الخدعة وأدرك أن هذا "العبث" هو حياته،
فقرر أن يعيشها باستمتاع، يدفع الصخرة نحو القمة وهو يمرح، برغم أنه يعرف أنها
ستسقط، وينزل وراءها وهي تتدحرج متوهما أنه يلعب لعبة مسلية من دون أن يفكر في هدف
أو تغيير..
لم يعجبني حديث كامو عن سعادة سيزيف بمصيره، مبررا استسلامه
بأنه نوع من التمرد السلبي، فإذا كان ذلك هو حكم الآلهة، فلا مهرب من القبول به ومحاولة
الشعور بالسعادة وأنت تفني عمرك في أفعال تافهة!
انشغلت طويلا بالبحث عن سيرة سيزيف بعيدا عن كامو، ربما
أعثر على خط ثوري للتمرد وتغيير المصير من "التفاهة" إلى "المواجهة"،
قادني بحثي على دهاليز مظلمة رأيت فيها الجانب البغيض من شخصية سيزيف كخائن للعهود
وقاطع طريق وقاتل ومحتال، وعرفت أن اسمه يعني "خنفساء العفن"..
توقفت أمام المفارقة الصادمة: كيف خدعتنا الخنفساء
النتنة سنوات طويلة بوهم أنها رمز للمقاومة والتمرد، ثم اكتشفنا كل هذه التفاهة في
سلوكها السلبي الذي انتهى بقبول التحول إلى بندول عبثي يراوح مكانه في فعل مكرر ضد
التطور والتحرر وإرادة الإنسان؟!
(الخفة والثقل)
كنت أجلس مع بعض الأصدقاء في
قاعة سينما مترو بوسط القاهرة، نتابع أحد الأفلام الكوميدية الشهيرة، كانت القاعة
تضج بالضحك والتعليقات، وكنت أتلفت حولي من الحيرة، أحاول أن أتعرف على ملامح الوجوه
التي تضحك، ربما لأعرف هل هم في مثل عمري أو أجيال أصغر. ربما تكون الكوميديا تؤثر
في الناس حسب السن، وقد تكررت نفس الحالة في أفلام كثيرة، حتى أقنعت نفسي أن
المشكلة تخصني، فالناس من حولي يضحكون على مواقف وكلمات لا تضحكني.
إذاً هناك شيء فسد في قدرتي
على التلقي والتفاعل مع مشاعر البهجة، وتذكرت أنني كنت في مراحل طفولتي أكره الكتب
التي لا تحتوي على صور وحكايات مشوقة، وكنت أستثقل الكتب المترجمة والقراءات
الفكرية، وكلما كبُرت كنت أتقبل ذلك النوع تدريجيا، من دون أن أفقد غرامي بقصص
الكوميكس والكتابات الخفيفة اللطيفة والألغاز البوليسية. كنت خفيفا في تكويني حتى أن
صديقا من عشاق الرصانة قال لي أنت تضحك في كل شيء، حتى أنني أتخيل أنك إذا مت ستخرج
لنا من النعش وتقول نكتة وتسخر من الموت!
ماذا حدث إذاً؟
لماذا لم أعد أضحك في الأفلام
الكوميدية؟
هل خسرت الخفة وصرت ثقيلا؟
بينما كنت منشغلا بهذه الأسئلة
قرأت رواية لميلان كونديرا ذاع صيتها في بلاد العرب، ولم أكن قد قرأت له من قبل،
فاندهشت من المداخل الفلسفية والنظرية عن "العود الأبدي" و"الخفة"
و"الثقل". كان كونديرا يكرر لعنة كامو عن التكرار اللا نهائي في الحياة،
وكان ينحاز إلى الخفة في مواجهة الثقل، وكان ذلك يؤلمني لأنني أصبحت غامضا ومغلقا
وصعبا في كتاباتي، لا أقترب من لغة الجمهور السهلة، وأجتهد في البحث عن موضوعات لا
تحكي عن الشائع والمتداول بين الناس، لكنني لم أستطع العودة إلى الخفة، ولم أقبل
بالسعادة التي توفرها حالة القبول بالسائد، باعتباره القدر والمصير، كنت أعاند
قانون "الجمهور عاوز كده"، وأقول لا بد من الاصطدام مع الجمهور وقيادة
مزاجه وليس الخضوع لمشيئته..
واستمرت قراءاتي المتوالية
لأعمال كونديرا فاكتشفت أنه يمجد الخفة والتفاهة كوسيلة لإظهار خفة وتفاهة الوجود
الذي يتعارض مع ثقافته وكينونته، وفهمت أن ترجمة العنوان للعربية كانت مخادعة
ومضللة، فالرواية الأولى التي قرأتها كانت بعنوان "خفة الكائن التي لا
تحتمل"، وفي ترجمة أخرى "كائن لا تحتمل خفته"، بينما المعنى
الحقيقي للعنوان ولفكرة كونديرا تقصد "خفة الوجود التي لا تحتمل".. أي أن
الحياة بخفتها وعبثيتها هي التي تتسبب في مشاكل وأزمات البشر الذين يبحثون عن معنى
جيد للحياة، وقد وضحت هذه الفكرة بدرجة ألمع في روايته "حفل التفاهة"،
حيث تنتشر التفاهة وتسيطر وتطغى على كل شيء جيد، وهذا يبدو في سرده لقصة رحلة
الصيد العجيبة التي كان
ستالين يكررها على مساعديه، ولم يجرؤ أحد منهم على
مناقشتها معه، بينما كانوا يسخرون منها عندما يبتعدون عنه ويدخلون إلى المراحيض!
(من يصدق المهرج؟)
كان الديكتاتور ستالين مغرما
بحكاية قصة ذهابه لرحلة صيد في الغابة حيث وجد 24 طائرا على شجرة، ولم يكن معه سوى
12 رصاصة، فاصطاد 12 طائرا وعاد إلى البيت وملأ بندقيته بـ12 رصاصة أخرى وعاد إلى الغابة
فوجد الطيور مكانها، فاصطادها جميعا!..
لم يتعامل أحد من مساعدي
الديكتاتور على أنه يمزح، ولم يجرؤ أحد على تكذيب إنجازاته، فكان يحلو له أن يعيد
القصة في كل اجتماع منتظرا أن يناقشه أحد بمناسبة الحوار الوطني الذي أطلقه ستالين،
فلم يفعل المسلّمون بالمقادير.
ويحكي كونديرا قصة
"كالينين" ضعيف الشخصية المصاب باحتقان البروستاتا، والذي كان يهرول إلى
الحمام سريعا فور انتهاء الاجتماعات، وكان ستالين يمعن في تعذيبه فيطيل في تفاصيل
قصة الصيد المكررة، ولم يكن كالينين يجرؤ على قطع حديث القائد والاستئذان لدخول الحمام،
فكان يتبول في ملابسه، ويظل جالسا في مكانه حتى ينصرف الجميع، حتى لا يفتضح أمره،
وكان ستالين يتعمد الانتظار بعد الاجتماع ويأمره بالانصراف ليضطر للوقوف فتظهر
ملابسه المبتلة..!
ومع ذلك فإن المدينة التي
سميت "ستالينجراد" على اسم ستالين عادت إلى اسمها القديم، وكذلك المدينة
التي سميت "ليننجراد" لتخليد اسم لينين، بينما بقيت المدينة التي سميت
"كاليننجراد" محتفظة باسم كالينين دون تغيير، كأن كونديرا يسخر من الحالة
كلها، ويخبرنا بأن التافهين المنسحقين الصاغرين لديهم فرصة أفضل في البقاء، لأن
التفاهة لا تخيف أحدا، فهم أناس لطفاء يسمعون الأكاذيب ويعرفون (في داخلهم) أنها
أكاذيب، لكنهم يؤكدون على صدقها ويظهرون الإعجاب بها ويتحدثون عنها باعتبارها إنجازات،
وإن كان الديكتاتور يعرف ما يتحدثون به في المراحيض ويستمتع بجبنهم وعدم قدرتهم
على النطق بكلمة عكس ما يحب أن يسمع.!
المشكلة في تصديق قصة الصيد دون
مناقشة، تذكرني بما فعله الدكتور رشوان وزملاؤه في قصة "تيران وصنافير"،
فالمناضل الناصري القومي الذي كان يعتبر إغلاق مضيق تيران بطولة، صار يعقد الندوات
والاجتماعات ليقنع المتشككين بأنها سعودية، وأن ستالين عاد إلى البيت لحشو بندقيته
بالرصاص والعودة بعد ساعات لاصطياد نفس الطيور التي انتظرت القائد حتى يعود ويحقق إنجازاته!
هذا الاستماع الصامت الصاغر
من جانب المساعدين يجعل منهم أمام الجمهور مجرد مجموعة من المهرجين لا يجب التعامل
مع كلامهم بأي واقعية أو مصداقية، وهذا يذكرني بمقولة رمزية للفيلسوف سورين كيركيجور
يقول فيها: شب حريق في كواليس المسرح، خرج المهرج لإبلاغ الجمهور بالحادث وطلب
منهم الإسراع بالفرار، فظنوا أنها مزحة وضحكوا. كرر تحذيره بصراخ وصوت أعلى،
فضحكوا أكثر، وفي رأيي سينتهي العالم بهذه الطريقة: جمهور يستمع إلى مهرج يتحدث عن
مأساة فلا يصدقه لأن المهرج يتحدث بخفة ولا يتحدث بثقل أبداً..
أخشى أن يكون جمهور المهرج في
المسرح المحترق هو نفسه الجمهور الذي كان (ولا يزال) يضحك من حولي، بينما أنا واجم
وثقيل الظل ولا أجد ما يضحكني في واقع يحترق.
[email protected]