كِلْتُ لنفسي تهماً كثيرة، أقلُّها أنه ليس الوقت،
وأكثرها أني كنت واهماً. حين تسامرني عن طفولتها الشقية، وكيف أن ندْباً جانب
الأنف وتحت العين اليسرى لم يزل يذكرها بكومة الأشواك التي تعثرت بها، تقدِّم لي
صوراً لسنين حياتها. كنت واهماً، لكننا حين نحبّ شخصاً؛ نحدثه عن حياتنا، وفي غمرة
الحديث نلتمس منه تعاطفاً ونودّه دون تفسير، فالتفاسير تلوّث أرواحنا.
يلوح في عينيها الفرح، ولمحة يبدّد إحساسي بها كل
الخواء الذي تلده الشكوك.
أرمد عينيّ التلهف، وانطوى الفكر أمام اختلاجة القلب.
كنت أطرحها في العراء تلك الاختلاجات، وأستمرئ لفيح الشمس يشويها!
وفي عتمة التساؤل تشعّبت حيرتي، حانت منها نظرة خفيضة
رافقتها غيومٌ أسِيّةٌ.
رغبة الكشف ضمّخت زوايا المجهول التي أعتمت داخلي،
هممْتُ أن أطاردها بالسؤال، فأنا منذ الأزل عشقت مدينة محرّمة، ظلّت أقفالها عصيّة
عليّ، وما زاد ذلك عشقي إلا التهاباً وشوقي إلا التياعاً.
لم تتركني أستجمع الشتات وأقتنص الومضات التي تلألأت
في فضاء حيرتي القاتمة، فنظرةٌ إليها كشفت عن رعشة الشّفة السفلى.
- أهذا وقت البكاء؟!
- أجل.
- ابكي ما استطعت، أحبكِ، اروي شقوق الألم في أرض
تحترق.
- إنك مجنون.
ألم تعرفي من يعشق تلك المدينة؟ كل الأنوار تلألأت،
والشوارع مفتوحة الأذرع، والكُوى في السقوف تهبني أفقاً بلا حدود، يرفرف قلبي فيه
ويأوي إلى راحتيك جزعاً بعد أن أوجعه درب الألم وأدماه. منذ المولد ما فتئت تتضرّج
فيه أقدامي أينما ولّيت وجهي. ثمة أشواك تنهش لحمي. قلبي مصلوب على الشوارع
الترابية، والشمس قد ألهبت جبهتي، والفضاء موطن الوباء. إنه شيء يا صديقتي يقولون
عنه الفقر، أمّا أنا فأسميه الحرمان.