مدونات

الحـلــزونـــة

محمد سرسك
CC0
CC0
شوقي لك أبديٌ، يتوقّد في عتمةٍ ضمّت بقايا جسدي، ينشر دفأه في عظامي، وتعبق بالنور روحي، حتى إذا نفخ إسرافيل هاج الشوق وتخلّق إنسانا يهرول ولِها للقاء.

أترين انكسارات الإرادة المنقضّة أبدا على ذاتي، وفائي لك يسمو فوقها فَيُقيم ضلوعي ويرقص من الألم قلبي.

يضج في الشغاف شوق قديم معتّق في عتمة المخيم، مذ كنت صبيّا يجوس بقدميه التربتين بين نِيامٍ تاهتْ جميع ملامحهم، وأصبحت أسماؤهم أقرب إلى رموز للتعريف، هذا اسمه ألف، وهذه باء، قد يكون الآخر جيما، فالنّكبة علّمتهم الاختزال في الأقوال وفي الأحلام.

السّمر الليليّ بغير قصدٍ يجري دوما خلف ذكرى شاردةٍ لزمن صديق، يتحلّق الرجال ويتكئ في خواصرهم أطفال قصة جديدة.. البلاد.. البيارة.. والصحبة القديمة.

تتداعى أشلاء الماضي فيردها خائبةً حاضرٌ هلامي. يضمّون بقايا أملٍ في الحنايا، تنثني الأجساد.. يهجعون.

كان بالأمس حياة. و"كان" هي أكثر الكلمات جورا، حيث يستوي عندها السحيق باللحظة الفائتة، والرّمل بالميت الجديد.

"كان" السمرُ من قبل لذيذا بُعَيْد تعفّر الأيدي بعَجاج الأرض، وغوص الأقدام في طين السّواقي، وتمطِّي الجسد المكدود في ظلٍ وارفٍ لبرتقالة حسناء.

جَليلٌ يُقعي على التراب، بباطن الكف يمرّ على أديم الأرض ويسكن كأنما يستودعها ذوب العمر وخبرة الحياة، لم ينتبه الأبناء، ترك لنظراته الشرود.

تَطِنُّ في رأسه أسراب القادمين الجُدد. "إنها أرض العسل".. يتهامس ذوو القلنسوات والذقون. "الحلوى تجلب الذباب" فكرة قديمة بزيٍّ يطلع بوحشية فيستبينه، وجهٌ مخيفٌ استحال لمرآه أنْ يتصوّر تَقَوْلُب الفكرة الأخيرة فيرى نفسه وقد أضحى أُلْهِيَةً في الأرض.

شرعت كل الغوالي بالضّمور. يلقي نظرة تحت أقدامه "الريح بحُنْق تحفر تبغي الجذور".

هرع ورمى، فتطايرت العيون الزرق المتحجّرة، واحترق الشعر الأشقر الذي تشبّع بالثلج، لكن الحقّ تسلخه القوة، وتعمْلق الذباب فأصبح طائرات حملت أرض العسل وطارت بعيدا، وقعت كفّه على الفراغ، وغاضت في عروق الأبناء البيارات.

منذ تعلُّق أذنيَّ بأول الأسماء طفقت "أغوص في دمي!". أشقّ ستائر اللحظات والسنوات المصلوبة في التاريخ وفي الساعات، فكانت أقدامٌ داميةٌ، وأرض الملح هي الفاصل بين اللحظة وبين الماضي، فأصبحتُ داعيةً يبشّر بالماضي، هذي تركة أبي خلعها وارتديتها، جثمت على صدري فاعتادت أعصابي الدفء الذي يدبّ فيها مع رائحة الكاز، وصوت الوابور شجوٌ يصفح رأسي، فغدوت يؤرّقني الهدوء.

في البداية رفضْتُه، لكنني رغّبتُه وعلى مضضٍ قبِلتُه، تركة الآباء لم تعد هي الحجر الوحيد، فقد قذفني العالم بصدقات كثيرة وبيوت من الصفيح وكثير من البؤس.

الأرض ممتدة أبدا بلا وطن، وانطلقت في ذُعْرها السّيقان. أخي أصبح صانعا كبيرا. أختي استقرّت مع زوجها في دولة خليجية. صديقي هاجر مع عائلته إلى أمريكا، لكنهم لم يقيموا فوق بيته تمثالا للحرية.

أمّا أنا فما زال قلبي يهشّ إلى تلك القادمة من المدينة، أُمُنِّي النفس بسكينة في صومعتها. خطف بصري ذاك الوهَج تنشره قبّةٌ ذهبية؛ فتختفي من السماء نجومها ويهاجر حسرانُ القمر.

هما الحنين دمعا حشَرَتُه المآقي زمنا وتلظّى بحرّه القلب. عانق صدري النسيم اللاهي هناك مثل طفل منسيٍّ استرسلت في الخَطْوِ قدماه.

كل الأمكنة حبيبةٌ، والحبيبة مكان أُسَمّيه وأُخفيه فيتوهّج الاسم ويجمح، يتخطى مسافات العروق ويلوح، فأترك جسدي ملهوفا إليه، ماضيا خلفه.

أصبحتْ تُقيم في ضلوعي امرأة، لا بل أنا عاشق المدينة.

سيارة وسرير، وهواء وثير، والعطر يقطر اشتهاءً.

موسيقى غربية تدعوني للاسترخاء، عمل اليوم مجهدا كان، والسوق تتلف الأعصاب. التجارة باب واسع للرزق، وزوجتي خبيرة بمسارب الإغراء، متتبعة لشؤون المال، فالرغبة في الزّهْو هواية مفضّلة لديها.

تهادت فوق الخمول حِدّتي، والمال قلّم أظافر فقري، الهواء الرّخْو مال برأسي وهزئ بي، فأسلمت نفسي لمضجعي، الموسيقى تكرّس كل ذلك. استقرت قليلا نظراتي.

رأيتني مثل أفعى تتلوّى على صوت مزمارٍ أو راقصةٍ يستجيب جسدها لهسيس طبل، أيقنت أنها المُيوعة تنسلّ في الأوصال فانتفضت.

أسندت ظهري كمن يستعد لحديث طويل. ذكرت الفراغ تحت يد ذلك الرجل الذي سكن الماضي ولم تأت به الأيام.

أقبلت وقد فاضت في الجسد أنوثتها، كاد الثوب يذوب. رخاوتها تحوّلت في ذهني بفعل لازمةٍ لا تفارقه، فاجتاحني القرف من هذه الحلزونة، رخوة تنتصب بافتتانٍ أمامي، كنت وقد امتدّ الشرخ في صدري، فخاصمتُني ولمتُني وكرهتُني.

طالت ذراعي، هذي امرأة كادت تغتال مدينتي.

- حق الرّجْم.

صَغُرْتُ وهربتُ الى الماضي، اختفى الشّاربان وظهر طفل بقدمين ترِبتين، أردتُ أن أحطّم الفراغ، أمسكت حجرا وانطلقت مع أطفال آخرين مثلي وفتاة أعرفها، رجمنا الحلزونة وآخرين.
التعليقات (0)