غالباً ما تكون الجيوش في البلدان التي تحترم نفسها رمزاً للوطنية، إن لم نقل رمز الوطنية الأبرز، لأنها الحامي الأول والأخير للبلاد. وغالباً ما تنظر إليها الشعوب على أنها السد المنيع في وجه الأعداء وكل من يحاول النيل من الأوطان.
وهذا هو فعلاً حال الجيوش الوطنية التي تربت على عقيدة حماية الحدود والذود عنها. لكن للأسف الشديد يختلف الوضع في العديد من الدول العربية، فالكثير من الجيوش أصبحت في عيون ملايين العرب رمزاً للطغيان والعدوان وحتى الخيانة والعمالة، لأن آخر ما يهمها حماية الأوطان والشعوب، وتكاد تنحصر مهمتها في الدفاع عن الأنظمة والطغاة ومواجهة الشعوب وسحقها عندما تطالب بأبسط حقوقها. كل جيوش الدول المحترمة توجه سلاحها للخارج، بينما معظم الجيوش العربية توجه ترساناتها إلى صدور الشعب دفاعاً عن الحكام ومشغليهم في الخارج. ولا عجب في ذلك، فهناك وثائق تاريخية تؤكد أن معظم الجيوش التي استلمت الحكم بعد ما سمي الاستقلال، هي بالأصل صناعة استعمارية، فلم يخرج المستعمر قبل أن يسلم مقاليد السلطة للعسكر ليكونوا وكلاءه وعملاءه في بلادنا بعد خروجه النظري من أوطاننا. وفي واقع الأمر فقد سلمت قوى الاستعمار كل سلطاتها ووسائل القهر والإجرام والعنف والقذارة إلى جنرالاتها ليكملوا المهمة من بعدها، ولو قارنا ممارسات المستعمر بممارسات أذنابه العسكريين لوجدنا أنه كان أقل وحشية، لأن أدواته المحلية تفوقت عليه بمراحل في القمع والسحق والتخريب والتدمير والنهب والسلب، ولو أحصينا عدد ضحايا المستعمر بعدد ضحايا الجيوش العربية لوجدنا أن المستعمر لم يقتل ربع ما قتله العسكر من أبناء جلدتهم، لا بل كان أرحم بكثير في التدمير والنهب. ولا داعي لذكر الجرائم التي ارتكبتها الجيوش عندما انتفضت الشعوب على مدى عقد من الزمان مطالبة بأبسط حقوقها.
ولو درستم تاريخ تطور الجيوش العربية منذ ما قبل خروج المستعمر من العالم العربي لوجدتم أن المستعمر هو من صنع العديد من الجيوش ودربها ووضع لها العقيدة العسكرية، والغريب أن عقيدة الكثير من الجيوش العربية لم تتغير عما كانت عليه قبل الاستقلال المزعوم إلا بالشكل فقط، بينما في الواقع فإن طبيعة تلك الجيوش وتركيبتها ظلت تحتفظ باللمسة الاستعمارية القذرة، ولا ننسى أن الفرنسيين مثلاً كانوا يختارون جنرالات وقادة الجيوش التي صنعوها وسلموها السلطة في العالم العربي حسب مواصفات طائفية وعقائدية وعرقية وشخصية معينة، لهذا مثلاً تجد أن بعض الجيوش ظلت طائفية التوجه بعد خروج المستعمر بعشرات السنين. ولو قارنت تركيبتها القديمة بالتركيبة الحالية لوجدتها نسخة طبق الأصل عن التركيبة التي وضعها المستعمر الفرنسي في بعض البلدان.
لا عجب إذاً أن الرئيس التونسي الأسبق الدكتور منصف المرزوقي وضع كتباً بعنوان «الاستقلال الثاني» معتبراً أن تسلم الجيوش العربية السلطة بعد خروج المستعمر لم يكن استقلالاً أبداً، بل عملية استلام وتسليم بين المستعمر والجيوش اللاوطنية التي حلت محله في عملية الاحتلال والاغتصاب لأوطاننا وسحق شعوبها. ويؤكد المرزوقي على أن المطلوب اليوم لتحقيق الاستقلال الحقيقي الذي سماه بالاستقلال الثاني هو تحرير بلادنا من الطغم العسكرية التي تحكمها نيابة عن المستعمر القديم. وما دامت تلك الجيوش تتحكم بالسلطة من وراء الستار أو أمامه، فلا مستقبل لأوطاننا ولا لشعوبنا. وكل من يعتقد أن قوى الاستعمار القديم يمكن أن تعاقب وكلاءها الذين ينوبون عنها في نهش لحوم شعوبنا فهو مغفل، لأن تلك الجيوش تنفذ حرفياً سياسة التوحش والهمجية التي وضعتها لها قوى الاستعمار قبل خروجها. وكلما أمعنت تلك الجيوش في جرائمها بحق الشعوب حصلت على مزيد من الثناء والدعم من صناعها القدامى. وكلنا شاهد ردة فعل الغرب على ما فعلته الجيوش ببعض بلداننا وشعوبنا. لم يحرك ساكناً لأنه سعيد جداً بما يفعله تلاميذه بمستعمراته القديمة الجديدة.
ولا نبالغ إذا قلنا إن معظم الجيوش العربية هي نسخة طبق الأصل عما يسمى الجماعات الإرهابية كداعش وأخواتها، فكما أن قيادات تلك الجماعات ليست أكثر من ثلة من العملاء في أيدي اجهزة خارجية، وأن أعضاءها جماعات من المغفلين المضحوك عليهم الذين يعتقدون انهم يناضلون من اجل قضايا عادلة، بينما هم في الواقع مجرد أدوات ووقود خدمة لمشاريع خارجية، فإن قادة العديد من الجيوش هم بدورهم كقادة الجماعات الإرهابية المرتزقة يعملون بوظيفة عملاء لصالح قوى خارجية، بينما الجيوش نفسها تعتقد أنها تقوم بمهمة وطنية تماماً كالمساكين المغفلين الذين تجندهم وكالات الاستخبارات الدولية للقتال ضمن جماعات دينية لأغراض استراتيجية. وقد قال بريجنسكي أشهر مستشاري الأمن القومي الأمريكيين ذات يوم إن «الجماعات الجهادية هي سلاح جيوسياسي صنعناه من أجل تحقيق مصالحنا». والشيء نفسه تقوله القوى الاستعمارية عن الجيوش التي صنعتها وسلطتها على الشعوب بعد خروجها من بلادنا. طبعاً نحن لا نشكك أبداً في وطنية ملايين الجنود في الجيوش العربية، لكنهم للأسف لا حول ولا قوة لهم، فهم مجرد وقود وعتلات في أيدي القيادات والأنظمة العميلة المرتزقة.
إن أكبر كذبة وخدعة يمكن أن تتعرض لها الشعوب العربية التي تثور اليوم وتطالب بحقوقها هي أن تقبل بتشكيل مجالس عسكرية لحكم البلاد بعد سقوط هذا النظام أو ذاك، وقد شاهدنا ماذا فعل العسكر بعد الثورات في أكثر من بلد بعد أن عادوا إلى السلطة بمسميات جديدة بحجة حماية الأمن الاستقرار. إن أي مجلس عسكري جديد سينفذ نفس المهمات الاستعمارية التي أوكلها المستعمر لعملائه قبل خروجه من بلادنا. لا تصدقوا أن هناك مجلساً عسكرياً واحداً يمكن أن يكون وطنياً أو مستقلاً، لا بل سيكون بدوره عميلاً وأداة في أيدي قوى خارجية، ولن يستلم السلطة إلا بدعم خارجي، وبالتالي سيعمل لصالح مشغليه بالدرجة الأولى كما عملت من قبله الجيوش اللاوطنية لصالح صناعها وكفلائها في الخارج. دلوني على جيش عربي من الجيوش الكبرى لم تصنعه وتشكله وتوجهه أياد خارجية.
لهذا لا تضيعوا أوقاتكم مع أي حركات عسكرية جديدة بحجة المرحلة الانتقالية، وانظروا ماذا فعل العسكر بالسودان بعد أن أخمدوا الثورة وضحكوا على حركات التغيير.
قبل أن تحرروا أوطانكم من الظلم والطغيان حرروا جيوشكم من العمالة والخيانة والتبعية، فهي جيوش تحت الاحتلال الخارجي، وعندما تصبح الجيوش أدوات وطنية بيد المؤسسات السياسية الديمقراطية المنتخبة، ستكون بلادنا وشعوبنا قد تحررت، لكن طالما أنها ترزح تحت قبضة العسكر ومشغليهم في الخارج فلن تقوم لها قائمة أبداً.
القدس العربي اللندنية