لا شك أن النظام يعرف والسوريين يعرفون والعرب يعرفون وحلفاء النظام يعرفون ومعارضي النظام وداعميهم في الخارج يعرفون، أن لا حل دائما في
سوريا من دون توافق كامل بين كل الأطراف المتورطة في القضية السورية. وأي كلام عن حلول في غياب ذلك التوافق هو مضيعة للوقت، وفي أحسن الأحول هو ربع حل يزيد الأمور تعقيدا بدل أن يحلها.
ولو نظرنا إلى القضايا الشائكة التي تم حلها بعد جهد جهيد في العقود الماضية، لوجدنا أن الحل كان عبارة عن توافق عام بين كل الأطراف المتشابكة والمشتبكة في تلك القضايا، ومن ثم كان الحل يأتي كتسويات وانفراج في العلاقات والنزاعات بين القوى المتصارعة حول تلك القضية أو تلك. وقبل أن نتحدث عن الحل، تعالوا نلق نظرة على الصراعات المتشابكة والمعقدة في المسألة السورية، مما يجعلها من أعقد القضايا في المنطقة منذ عقود وعقود.
اليوم على الأرض السورية، هناك صراع أمريكي روسي يزداد حدة بعد الغزو الروسي لأوكرانيا. صحيح أن الروس دخلوا سوريا بتنسيق وضوء أخضر أمريكي بشهادة أندرو أكسوم مساعد نائب وزير الدفاع الأمريكي، لكن الوضع اليوم اختلف كثيرا بين
روسيا والغرب بعد الغزو الروسي لأوكرانيا فيما يخص القضية السورية. صحيح أن واشنطن وموسكو حافظتا على نوع من التهدئة والتنسيق في سوريا، لكن هذا لا ينفي أن التوتر بات اليوم سيد الموقف بين الطرفين على الأرض السورية، وهناك احتكاكات عسكرية متواصلة بين الأمريكيين والروس، مما يزيد الأمور تعقيدا فيما يخص الحل السوري. بعبارة أخرى، فقد ألقى الوضع الأوكراني بظلال قاتمة على الحل في سوريا؛ لأن الغربيين باتوا اليوم يعتبرون الوجود الروسي في سوريا ضد مصالحهم. وحتى لو وافق الغرب على الوجود الروسي من أجل حماية إسرائيل، إلا أن ما قبل الغزو الروسي لأوكرانيا ليس كما بعده فيما يخص الوضع السوري. إذا، نحن في حاجة ماسة لتوافق غربي روسي في سوريا قبل الحديث عن أي حل، وهذا ليس متوفرا لا اليوم ولا غدا.
ولو انتقلنا الآن إلى الصراع التركي الإيراني في سوريا، لوجدنا أنه يزداد حدة، فالأتراك رغم تقاربهم مع الإيرانيين إلا أنهم يخشونهم في سوريا. ولا ننسى أن إيران ترعى العديد من الفصائل الكردية التي تهدد الأمن القومي التركي من سوريا. وجدير بالذكر أن الإيراني والأمريكي أقرب إلى بعض فيما يخص دعم الفصائل الكردية في سوريا، مما يجعل طهران وواشنطن في مركب واحد ضد تركيا.
ولإنجاز أي حل في سوريا، فلا بد من تسوية الصراع التركي الإيراني الأمريكي حيال المسألة الكردية في سوريا. هل هو متوفر اليوم؟ بالتأكيد لا. وحدث ولا حرج عن الصراع التركي العربي في سوريا، فالعرب لا يخشون النفوذ الإيراني في سوريا، كما يزعمون في إعلامهم، بقدر ما يخشون النفوذ التركي، ويقال إن التقارب العربي مع دمشق في بعض جوانبه، هدفه التصدي للنفوذ التركي في سوريا. وهذا الأمر ربما يزداد حدة مع تحسن العلاقات بين دمشق والعرب. وحتى داخل الصف العربي هناك تمايزات فيما يخص النفوذ التركي في سوريا، فقطر مثلا تتوافق مع تركيا بخصوص الحل السوري، بينما بقية الأطراف العربية تعارض المخططات التركية في سوريا. وكيف ننسى الخلاف بين التركي والسوري، فالنظام لا يمكن أن يدخل في حل حقيقي إذا لم يسوِّ مشاكله مع الأتراك. وقد شاهدنا كيف رفض الرئيس السوري اللقاء بالرئيس التركي قبل الانسحاب من الأراضي السورية في الشمال، فخرج وزير الخارجية التركي ليزيد الطين بلة، فقال: «لن ننسحب من الأراضي السورية قبل تسوية مشكلة قسد وبقية المليشيات الكردية التي تهدد الأمن القومي التركي من سوريا». أضف إلى ذلك أيضا، أن التوافق التركي السوري ليس مصلحة أمريكية؛ لأنه سيتصدى للمشروع الكردي المدعوم أمريكيا وإسرائيليا في سوريا.
صحيح أن العرب اليوم في ظل هزائمهم وفشلهم وتورطهم وغرقهم في أكثر من قضية أصبحوا أقل إصرارا على إخراج الإيراني ومليشياته الطائفية من سوريا، لكن هذا لا يعني أنهم نسوا الأمر تماما، وأصبحوا موافقين على الاحتلال الإيراني لسوريا. لا أبدا، فهم على المدى البعيد يفضلون تحرير سوريا من النفوذ الإيراني المتصاعد، وقد لا يقبلون بأي حل دائم في سوريا من دون ضمانات بتخفيف الوجود الإيراني على أراضيها.
ولا ننسى الصراع الإسرائيلي الإيراني على الأرض السورية، فكل الغارات الإسرائيلية المتواصلة منذ سنوات تستهدف مواقع إيرانية في سوريا. وفي بعض الفترات لم يمر أسبوع إلا وشاهدنا قصفا إسرائيليا للأراضي السورية، يستهدف مليشيات إيران ومواقعها على الأرض السورية، بما فيها المطارات المدنية. ولا يمكن لأي حل للقضية السورية أن يمر من دون تسوية الصراع الإسرائيلي الإيراني في سوريا، بينما على أرض الواقع تزداد الأمور سوءا بين الإسرائيليين والإيرانيين بسبب المشروع النووي الإيراني. أضف إلى ذلك الصراع بين إسرائيل والفصائل الفلسطينية المدعومة إيرانيا، فهو بدوره يلقي بظلاله أيضا على الحل السوري.
وبعيدا عن كل تلك الصراعات المتشابكة والمعقدة على الأرض السورية، ماذا عن الصراع الأخطر بين النظام والشعب السوري؟ ما مدى إمكانية تفكيكه وتسويته؟ قد يقول البعض إن تسوية الخلافات بين الأطراف المتصارعة على الأرض السورية، سيؤدي بالضرورة إلى تسوية بين النظام وقوى المعارضة السورية، على اعتبار أن السوريين نظاما ومعارضة ليسوا سوى أدوات أصلا في أيدي أطراف خارجية تفرض عليها ما تشاء، وعندما تتفق تلك الأطراف الخارجية الداعمة للنظام والمعارضة، فسيأتي الحل بين الطرفين بشكل أوتوماتيكي. وهذا صحيح من الناحية النظرية، لكن هل يمكن لنصف الشعب السوري المشرد بين الشمال السوري وتركيا والأردن ولبنان وأوروبا أن يقبل بالعودة إلى حضن النظام بشكله الحالي؟ بالتأكيد لا، مستحيل، إلا إذا نجحت الأطراف الدولية والعربية والإقليمية بفرض حل يؤدي إلى تغيير شامل في تركيبة النظام وعقليته، وهذا للأسف يبدو مستحيلا اليوم، مما يجعل إعادة إعمار البلاد شبه مستحيلة؛ لأن الأوروبيين والأمريكيين وحتى العرب يرفضون تقديم قرش واحد قبل أن يكون هناك حل سياسي يرضي السوريين جميعا، ويؤمن مصالحهم في سوريا. وهذا بدوره أيضا يبدو شبه مستحيل اليوم، مما يعني بالضرورة التفكير بتقسيم البلاد أو فدرلتها أو أقلمتها. فهل هذا هو الحل الذي كان يريده السوريون؟