قضايا وآراء

الديمقراطية ليست أسطورة مفبركة أو لغزا مصطنعا

نزار السهلي
انتخابات ديمقراطية ومن دون حسم على طريقة الأرقام العربية التقليدية- الأناضول
انتخابات ديمقراطية ومن دون حسم على طريقة الأرقام العربية التقليدية- الأناضول
ردود الفعل على فوز الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بالانتخابات الرئاسية لولاية جديدة، فيها الكثير؛ منها عبارات التهنئة عربية ودولية، ورغبة العمل مجددا مع "القيادة التركية" في كل الملفات التي تتشارك بها تركيا مع العالم وبزخم جديد، اقتصاديا وأمنيا وتجاريا وسياسيا، حسب بعض البرقيات الواردة بعد صدور نتائج الانتخابات، والتي كان سبقها كم هائل من التحليلات التي عكس بعضها مزاج ورغبة بعض القوى الدولية والعربية في رؤية تركيا "خالية ومنزوعة" من الأردوغانية التي تأخذ شكلاً من "الديكتاتورية" المطعمة بنكهة "عثمانية وإخوانية" بحسب خطاب الديكتاتور السوري الأخير أمام القمة العربية مؤخراً.

لكن في المحصلة، ما جرى في تركيا هو انتخابات ديمقراطية وحرة، ومن دون حسم على طريقة الأرقام العربية التقليدية المؤبدة للزعيم ونوابه في البرلمانات، وسواء اختلف البعض أم اتفق مع السياسة التركية الخارجية بزعامة حزب العدالة والتنمية، ونقصد هنا بعض الرغبات الرسمية العربية التي وجدت في النموذج التركي ما يؤرق جوانب الاستبداد العربي، فلم يعد كافياً أن يمزج بعض القادة مواقف وأحاديث عن "الإخوانوفوبيا" والعثمانية ليؤكد صحة عدائه لنموذج هو أقرب لحالة عربية مستعصية عن الخروج من أكاذيب خادعة ومكشوفة بما يخص تجاربها الديمقراطية والانتقال السلمي للسلطة وتداولها، والأهم في مركزية كل ذلك تثبيت حق المواطن في الاقتراع واختيار أحزابه وممثليه وقادته ومحاسبتهم.

ما جرى في تركيا هو انتخابات ديمقراطية وحرة، ودون حسم على طريقة الأرقام العربية التقليدية المؤبدة للزعيم ونوابه في البرلمانات، وسواء اختلف البعض أم اتفق مع السياسة التركية الخارجية بزعامة حزب العدالة والتنمية، ونقصد هنا بعض الرغبات الرسمية العربية التي وجدت في النموذج التركي ما يؤرق جوانب الاستبداد العربي

لم يحصل أردوغان على نسبة 99 في المئة في الانتخابات، ولم يحصد نواب حزبه مقاعد البرلمان، فالناخب التركي أظهر له قائمة طويلة من جردة الحساب التي يقاضي فيها الرئيس وحزبه بصناديق الاقتراع، وفتح له ملفات الاقتصاد والأمن والسياسة، وفتح صراع الأحزاب المعارضة مع السلطة ومحاسبتها.

وبصرف النظر مؤقتاً عن تاريخ الصراع والتنافس بين الأقطاب السياسية بما يخص المنطقة العربية وعلاقات تركيا بها، وحصر مشكلة اللاجئين السوريين في صدارة المشهد الانتخابي، فإن هذا الصراع في طوره الحالي يأخذ أبعادا وأشكالا غير مناقضة لأشكال تجليات الصراع السابقة؛ بين ما يطلق عليه الأتاتوركية والإسلام السياسي، أو كما حاول التيار الأول تصوير خصومه من حزب العدالة في حال وصولهم للسلطة فإن المخاطر ستكون أكبر، وهو ما لم يحصل، على العكس تماما، أظهرت تجربة حكم حزب العدالة والتنمية في مزاحمته لموطئ قدم في المنطقة العربية وعلى خارطة العالم وفي منظومته الاقتصادية والأمنية والسياسية، بما يندرج في سياق تعزيز الاستقلالية التركية وتحريرها تدريجياً من ضغوط المظلة الغربية والأمريكية، لتصبح بالتالي أحد أقطاب الإقليم في الشرق الأوسط، وهو ما زاد من اندفاع الهجمة على تركيا وسياسات حزب العدالة بزعامة رجب طيب أردوغان في العقد الأخير

مبدأ توازن المصالح وانتهاج المرحلية ضمن أهداف السياسة التركية لتأهيل اقتصادها، يدفع بحزب العدالة العائد للحكم بانتخابات ديمقراطية لخوض غمار المنافسة مجدداً، والتمكين من السيطرة على المشكلات الاقتصادية والاجتماعية التي فرضتها سنوات النهوض التي عاشتها التجربة التركية منذ عقدين؛ كطريقة مثلى لمنافسة قوى كبرى وتكتلات سياسية كانت تنظر لتركيا وتتعامل معها كمنطقة مجال حيوي قريب من مصالحها.

بالرغم من هذه المبادئ يعتبر البعض تعاظم وزن السياسة التركية وتوسيع القاعدة الديمقراطية في المجتمع والسعي إلى ما هو أبعد، من إعادة جسور التفاهم الثقافي والسياسي والاقتصادي بين تركيا والعديد من الأنظمة، هي سياسة يمكن القول إنها تميل لوجهة النظر التي تقول إن المخاطر على بعض الأنظمة في العالم العربي أكبر من الفوائد، استناداً على التصورات النمطية لتركيا في وسائل إعلام عربية وغربية في عهد أردوغان، والتي يرددها بعض السياسيين والإعلاميين في العالم العربي ممن يدورون في فلك الأنظمة العاجزة عن ممارسة أبسط تقاليد الحرية والديمقراطية، ولو على الطريقة التركية التي هي موضع "استخفاف ونقد" وهجوم وبنعت العثمانيين ونكهتهم الإخوانية وبأحلام السلطنة..

الانتخابات العربية وممارسة الديمقراطية للمرة الأولى في تجاربها المصرية والتونسية، مصائرها محزنة وبائسة من القمع، وفي ادعاءاتها السورية لتوريث السلطة والاستمرار بها من الأب للابن، ومن القمع إلى تحطيم المجتمع كله، وبتقديم رواية عربية ثابتة بعدم أهلية مجتمعات عربية لممارسة الديمقراطية، وبأن قدَرها التصفيق للحاكم الأبدي ولنسله من بعده ولذريته في الحكم، وبأن كل ما يسمعه العربي عن الديمقراطية ما هي إلا أساطير

الانتخابات العربية وممارسة الديمقراطية للمرة الأولى في تجاربها المصرية والتونسية، مصائرها محزنة وبائسة من القمع، وفي ادعاءاتها السورية لتوريث السلطة والاستمرار بها من الأب للابن، ومن القمع إلى تحطيم المجتمع كله، وبتقديم رواية عربية ثابتة بعدم أهلية مجتمعات عربية لممارسة الديمقراطية، وبأن قدَرها التصفيق للحاكم الأبدي ولنسله من بعده ولذريته في الحكم، وبأن كل ما يسمعه العربي عن الديمقراطية ما هي إلا أساطير مفبركة ولغزا مصطنعا، وأن الأحجية وحلها في فهلوة الزعيم وحنكته في تجريم التنازل عن السلطة وفي يده الحاملة لسياط القمع.

سقطت الأساطير وفكت الألغاز من عقل العربي، والديمقراطية والحريات أشياء بسيطة، والرهان على إحراز سبق في القمع لن يعيد الأساطير لأنظمة تقف على أقدام نخر عظمها القمع والفساد، وفشلت في تسريع نسق سيرها للتحول إلى إعادة الاعتبار للإنسان وكرامته ولمبدأ احترام كرامته؛ القوة القادرة فعلاً على بناء الوطن وتغيير مستقبله.

twitter.com/nizar_sahli
التعليقات (0)