عاد
التونسيون يشتكون من نقص الخبز في المخابز، وعاودت صور الطوابير إلى
وسائل التواصل والتونسيون بين شامت في منظومة الحكم وساخر، وبين عاجز يتدبر ويواصل
اللعنات في كل اتجاه دون تحديد جهة بعينها. لم تعد اللعنات من نصيب
النهضة
وعشريتها السوداء، أصوات كثيرة تحررت من أثر الإعلام الاستئصالي وهي تضرب على
جباهها بأكفها قائلة: الأمر يتجاوز حزبا بعينه ومرحلة بعينها، وأصوات أخرى خافتة
بعد تقول بين الهمس والجهر: لم تكن عشرية سوداء. أما الذين بدأوا الحديث بنغمة يا
حسرة على زمن النهضة فلا يزالون قلة غير مسموعة، لكن الأسئلة العميقة لم تُطرح
بالعمق الضروري من قبل الجميع حتى اللحظة.
هذه الأسئلة تدور أو يجب أن تدور حول محور واحد: إلى أي مدى يمكن مواصلة
بناء وهم دولة اجتماعية استنفدت مواردها ولا تفلح في ابتكار وسائل أخرى لتمويل
حياة رخوة (لا أقول رخية)؟ ومنه تتفرع أسئلة كثيرة حول دور النقابات ودور منظومة
الحكم الحالية أو التي ستخلفها ذات يوم؛ لا شك أنه آت قريب.
كانت دولة اجتماعية.. ولكن
في سياق المراجعات لا نجد ضرورة لنكران مكاسب اجتماعية تحققت منذ
الاستقلال. نظام تعليمي أنتج الكفاءات البشرية الضرورية لتسيير الإدارة ومكّن
أبناء الفقراء من مصعد اجتماعي فعّال نسبيا، ونظام صحي بكفاءات محلية حسّن من
الوضع الصحي العام وعلى مدى طويل، فضلا عن مكاسب أخرى لا يتسع المجال لتعدادها،
ولكن هذه المكاسب تحققت بفضل مؤسسات اقتصادية عمومية ونظام ضريبي قاس.
منذ ثورة الخبر سنة 1984 كانت كل المؤشرات الاجتماعية تتراجع والمكاسب
الاجتماعية تتقلص وصعوبات التمويل تتراكم. أجّل نظام ابن علي الانهيار بما فوّت
فيه من مؤسسات عمومية موّلت مرحلته، قبل أن تعود مؤشرات انهيار الدولة الاجتماعية
التي ورثها.
ف الآن أمام حقيقة فاجعة المؤسسة العمومية التي موّلت الاجتماعي، فقدت فعاليتها وصارت أكبر الأعباء على الموازنة. وعجزت كل النخب السياسية والاقتصادية بمن في ذلك نخبة الإدارة التي قيل لنا إنها قادرة على الابتكار والإبداع، فانكشف عجزها وانتظاريتها
كانت الثورة تتضمن في العمق دعوة للمراجعة الجذرية للنموذج؛ إما إصلاح
اقتصادي عميق واستعادة فعالية المؤسسات الاقتصادية العمومية، أو التقدم بشجاعة في
اتجاه دولة ليبرالية متحررة من ثقل التمويل العمومي للاجتماعي.
لم تفعل الثورة شيئا من ذلك وواصلت على نفس المنوال، وكان ارتباك من حكموا
أمام النقابات عنصرا محددا في هذا العجز عن التقدم. نقف الآن أمام حقيقة فاجعة
المؤسسة العمومية التي موّلت الاجتماعي، فقدت فعاليتها وصارت أكبر الأعباء على
الموازنة. وعجزت كل النخب السياسية والاقتصادية بما في ذلك نخبة الإدارة التي قيل
لنا إنها قادرة على الابتكار والإبداع، فانكشف عجزها وانتظاريتها.
يقف الانقلاب (وحكومته) الآن أمام هذه الحقيقة، ويعجز مثل من سبقه عن ابتكار الحلول، وهو يعيش تحت ضغط غير مسبوق من الداخل الذي ينتظر معجزة اقتصادية
تعيد له مكاسبه ومنها الخبز المدعوم، ومن الخارج الذي يضع شروطا واضحة: التخلي وبسرعة
عن كل دور اجتماعي للدولة. عجز متوارث يقف الانقلاب في آخر مراحله مكتوف اليدين.
هل يكون الحل ليبراليا؟
نملك إجابة على أن الحل لن يكون اجتماعيا بشروط ما كان وخاصة بعد الثورة،
لقد أفحشت النقابة في المطلبية حتى استنزفت كل قطرة دم في شرايين الدولة
الاجتماعية، والمؤسسات الاقتصادية العمومية المفلسة شاهد على هذا الفُحش.
في تونس الجميع يعلم أن ثروة الفوسفات محتجزة من النقابات والحكومات هاربة
أمام النقابات، وأن المؤسسات التي يفترض أن ترفد الموازنة بعائدات مالية واقفة على
شفير الإفلاس، والمثال الأبرز هو الناقلة الوطنية.
كانت هذه المعضلات أمام الثورة وكان عليها أن تحلها، فخضعت للابتزاز النقابي من ناحية ولم تفكر بشجاعة في تغيير المنوال السابق فاستسهلت الاتباع (أو الحكم بلا وجع رأس)، ففشلت ورحّلت المسائل العويصة إلى المستقبل، وهي الآن ككرة لهب بين يدي الانقلاب وستظل كذلك بعده
كانت هذه المعضلات أمام الثورة وكان عليها أن تحلها، فخضعت للابتزاز
النقابي من ناحية ولم تفكر بشجاعة في تغيير المنوال السابق فاستسهلت الاتباع (أو
الحكم بلا وجع رأس)، ففشلت ورحّلت المسائل العويصة إلى المستقبل، وهي الآن ككرة
لهب بين يدي الانقلاب وستظل كذلك بعده (توجد حياة بعد الانقلاب وهذا ثابت).
وجع الرأس ما زال أمام التونسيين وكل من يفكر أن يحكم البلد ولو بعد حين.
لقد استنفدت المؤسسات العمومية قدرتها على البقاء، والأمثلة المشابهة بما في ذلك
في البلدان الغربية انتهت بالخوصصة وإشراك رأس المال الخاص (المحلي والدولي) في
إنقاذ اقتصادياتها.
هل يمكن تجاوز النقابات؟ هذه معركة مؤجلة، ولكن خوضها جزء من المستقبل
السياسي والاقتصادي للبلد ومن لم يخضها لن يحكم. تحرير البلد من سلطة النقابة التي
تتخفى وراء خطاب اجتماعي شر لا بد منه، لقد كذبت النقابة على الشعب التونسي سنوات
طويلة، وقد آن أوان النظر في عينيها مباشرة ومحاسبتها، ولكن ذلك ليس الشرط الوحيد
للخروج نحو أفق ليبرالي. هناك كلفة يجب دفعها في الطريق.
يوجد فساد كبير في قطاع البنوك، وهناك طبقة من المتعيّشين من وجود قطاع
عمومي هش وينخره الفساد، وهو ليس فسادا نقابيا وإن كان يحتمي بدوره بالنقابات. اتباع
الطرق السهلة المعبّدة هو ما يحكم الإدارة التي لا تواجه عوائقها وتثبت كل يوم
أنها إدارة محافظة ومريضة، وتتخذ من التخويف من الليبرالية وسيلة للحفاظ على
مكاسبها الفئوية باسم الدولة الاجتماعي.
منوال فقد قدرته على البقاء
تأجيل المسائل العويصة لا يحلها، هو منهج تأبيد وليس منهج تحرير وتقدم. من
في الحكم الآن هارب إلى الأمام ولا قدرة له على التوقف وطرح المسائل الحقيقية،
والمعارضة الظاهرة في المشهد مشغولة كعادتها بالجانب السياسي ولا تخصص وقتا للنظر
والحديث في ما بعد الانقلاب، أي في بدائل اقتصادية، وهي تواصل التودد للنقابة خوفا
منها رغم أنها تعلم علم اليقين بدورها التخريبي.
هذا بلد وصل إلى أدنى درجات العجز الاقتصادي، ومنواله توقف عن الإنتاج وهو يستهلك نفسه بسرعة الضوء، وفقدان المواد المعيشية الآن هو علامة أو مقدمات لفقدانها الدائم ولو في وضع محكوم بديمقراطية شكلية
الشأن السياسي مهرب مريح ولكن إلى حين، ولو سقط الانقلاب (وهو ساقط قريبا)
فإن من يعارضه سيجد نفسه في موضعه عاجزا عن ابتكار الحلول الشجاعة. أسباب سقوط
الانقلاب ستكون هي نفسها أسباب سقوط من بعده ولو تسلح بعدل الفاروق، فالأمر ليس
بحسن النية ومحبة الشعب الفقير.
هذا بلد وصل إلى أدنى درجات العجز الاقتصادي، ومنواله توقف عن الإنتاج وهو
يستهلك نفسه بسرعة الضوء، وفقدان المواد المعيشية الآن هو علامة أو مقدمات
لفقدانها الدائم ولو في وضع محكوم بديمقراطية شكلية.
التونسيون في الحكم وفي المعارضة مدعوون لمواجهة ضعفهم وهشاشة منوالهم الذي
أدى مهامه المؤسسة وانتهت فعاليته، ومن لم يضع هذه الحقيقة في الاعتبار سيحكم
ضعيفا ولا يستمر، ولن يغنيه الحديد والنار عن مواجهة غول نهاية الدولة الاجتماعية،
أو دولة الكسل العام والمكاسب السهلة. إن الأزمة لا تبرح تونس منذ عقود وهي تتعمق بالفشل
السياسي الراهن وبالخوف العام من المستقبل.