قضايا وآراء

التّراث.. إشكاليّة اختزال المفهوم

محمد خير موسى
التراث ما سطرته ذاكرة أمّة من الأمم من النّشاط الإنساني الشّامل- CC0
التراث ما سطرته ذاكرة أمّة من الأمم من النّشاط الإنساني الشّامل- CC0
لا توجدُ أمّةٌ في الأرض إلّا وتستندُ في حاضرها على الجذور المتأصلة في ماضيها، فما انقطع جذره جفّ ومات ولو كان معرفةً متدّفقة، وتعدّ الأمم الراقية جذورها المعرفيّة مرجعيّةً مؤسِّسةً لحضارتها القائمة والقادمة.

وهذه المرجعيّة المؤسِّسة هي التي اصطُلح على تسميتها "التّراث"، فهو إذن ما سطرته ذاكرة أمّة من الأمم من النّشاط الإنساني الشّامل فيها على مدىً زمنيّ طويل.

وعندما نتحدّث عن التّراث الإسلامي، فالأصل أن يشير إلى هذه المرجعيّة المؤسِّسة في عقل الأمة الإسلاميّة وذاكرتها، غير أنّ مفهوم "التّراث الإسلاميّ" تعرّض لإشكاليّات عديدة في تحديد إطاره والتّعامل معه، ومن أبرزها إشكاليّة الاختزال في المفهوم.

عندما نتحدّث عن التّراث الإسلامي، فالأصل أن يشير إلى هذه المرجعيّة المؤسِّسة في عقل الأمة الإسلاميّة وذاكرتها، غير أنّ مفهوم "التّراث الإسلاميّ" تعرّض لإشكاليّات عديدة في تحديد إطاره والتّعامل معه، ومن أبرزها إشكاليّة الاختزال في المفهوم

على الرّغم من أنّ مدلول كلمة التّراث ما يزال فضفاضاً غير منضبطٍ، غير أنّ ممّا اتّفقت عليه فهوم أولي الفكر للتّراث هو شموليّة هذا المفهوم.

يقول المفكر والمترجم المصري شوقي جلال عثمان في كتابه "التّراث والتّاريخ؛ نظرة ثانية": "إنّ للتّراث معنىً شاملا لكلّ ما هو موروث من ثقافاتٍ تشتمل على قيم، وتقاليد، ورؤى، وهذا لا يعني انتماءه للماضي فقط، أي أنّه حدثٌ ماضٍ بل إنّه امتداد ثقافيّ يعايش العصر، وينفذ في حياة المعاصرين فيكون له أثرٌ على الحياة السّياسيّة، والاجتماعيّة، والثّقافيّة، والروحيّة".

ويعرّفه العالم الشّرعيّ والمفكّر الإسلاميّ المصري الدّكتور عبد الحليم عويس في كتابه "الحضارة الإسلاميّة؛ إبداع الماضي وآفاق المستقبل" بأنه "مجموع الماديات والروحيات التي تصاحب الأمة على مدار تاريخها".

كما يعرّفه المفكّر السّعودي مدير عام المنظّمة الإسلاميّة للتّربية والعلوم والثّقافة سابقاً، الدكتور عبد العزيز التويجري، في كتابه "التراث والهوية": "كلّ ما وصل إلينا مكتوباً في علمٍ من العلوم، أو محسوساً في فنٍّ من الفنون، ممّا أنتجه الفكر والعمل في التّاريخ الإنسانيّ عبر العصور".

وبناء على هذه التّعريفات يمكننا تقسيم التّراث إلى قسمين:

القسم الأوّل: التراث المادّي

ويطلقُ على كلّ ما يدركه المرءُ بحواسّه من قصور ومعابد وقلاع، وغير ذلك من العناصر المعماريّة والزخرفة والأشكال الهندسيّة والخط العربي وغير ذلك من المحسوسات.

القسم الثّاني: التّراث المعنوي

ويطلق على ما تتوارثه الأجيال من العلوم والمعارف، والكتب والعادات والتّقاليد والمبادئ والقيم، وما يتّصل بالسّلوك وطرق التعامل وتأدية الواجبات الاجتماعية، والآداب في المأكل والمشرب والملبس، وغيرها ممّا يتّصل بأدقّ التّفاصيل التي تميّز كلّ أمّة من الأمم الأخرى.

مصطلح "التّراث الإسلامي" يجب أن يتّسع ليشمل كلّ ما أنتجته الحضارة الإسلاميّة والمجتمعاتُ المنتمية لها من تراث ماديّ من عمارةٍ وخطٍ وزخارف أو معنويّ؛ يشملُ العلوم المختلفة والتّخصصات كلّها على حدٍّ سواء، وبمختلف اللّغات التي تنتمي إليها تلكم الشعوب الإسلاميّة

وبناءً على هذا، فإنّ مصطلح "التّراث الإسلامي" يجب أن يتّسع ليشمل كلّ ما أنتجته الحضارة الإسلاميّة والمجتمعاتُ المنتمية لها من تراث ماديّ من عمارةٍ وخطٍ وزخارف أو معنويّ؛ يشملُ العلوم المختلفة والتّخصصات كلّها على حدٍّ سواء، وبمختلف اللّغات التي تنتمي إليها تلكم الشعوب الإسلاميّة سواءٌ بالعربية أم التركية أم الفارسية أم الأوردو، أم غيرها من لغات اصطنعها المسلمون في صياغة إنتاجهم المعرفي.

ولكنّنا اليوم نشهد اختزالاً واضحاً في مفهوم التّراث الإسلامي عند كثيرٍ من المتحدّثين عنه، فلا يتبادرُ إلى أذهانهم وأقلامهم عند الحديث عنه سوى بعض التّخصّصات الشرعيّة، فيقصدون به كتب الفقه وأصول الفقه وأصول الحديث وكتب التفسير وكتب العقائد، ويُدخلونَ فيها أحياناً كتب التّاريخ، وينطلقون من هذا الاختزال في حكمهم على "التراث الإسلاميّ".

هذا الاختزال أدّى إلى تشوّه معرفي في انطباع مفهوم التراث في أذهان كثيرٍ من المتصدرين للحديث عنه والمتلقين له، وهذا التشوه المعرفي أدّى بالضرورة إلى تشوّه تعامليّ، فالاختزال قاد إلى إطلاق الأحكام القاصرة وغير المنهجيّة أو العلميّة على التراث، والأحكام إن لم تنطلق من تحريرٍ راشد للمفاهيم تأتي ظالمةً بسبب جهلٍ بالصّورة الكليّة حيناً، وتأتي عدائيّة بسبب الاختزال المقصود والممنهج والنّابع من أحقاد نفسية ومعرفيّة أحياناً أخرى.

twitter.com/muhammadkhm
التعليقات (0)