مقالات مختارة

من «أوراق البنتاجون» إلى «وثائق البنتاجون»

محمد المنشاوي
 الاختراقات والتسريبات ستحدث مرة ومرات أخرى
الاختراقات والتسريبات ستحدث مرة ومرات أخرى
يمثل اعتقال جاك تيشيرا، المجند بالحرس الوطنى الجوى فى ولاية ماساتشوستس، فصلا جديدا فى صراع طويل ومستمر حول تسريب ونشر وثائق أمريكية عسكرية سرية للغاية. وتثير كل حادثة جديدة جدلا قانونيا وسياسيا حول دوافع المسربين، والرد المناسب على أفعالهم، والعواقب اللاحقة.
وبغض النظر عن دوافع تيشيرا، كما كان الحال تجاه دوافع من سبقوه على مدار التاريخ الأمريكى الحديث فى تسريب ونشر وثائق سرية، تغيّر هذه التسريبات مسار الأحداث والتاريخ بصورة أو أخرى.
بالنسبة للكثير من الشعب الأمريكى، تستحضر أى عملية تسريب أو نشر لوثائق سرية على الفور اسم «دانيال إليسبرج» الذى كشف فى عام 1971 عن «أوراق البنتاجون»، ونسب إليه الفضل فى التعجيل بنهاية الحرب المأساوية فى فيتنام، والمساهمة بصورة أو أخرى فى سقوط الرئيس ريتشارد نيكسون.

وتيشيرا هو شاب يبلغ من العمر 21 عاما، متهم بالحصول على مواد سرية حول الحرب فى أوكرانيا ودور الولايات المتحدة فى تلك الحرب، وفى العديد من القضايا الأخرى، ويُزعم أيضا أنه سرب معلومات جمعتها وكالة الاستخبارات الأمريكية من مراقبتها (التنصت) على قادة العالم. هو متهم بالوصول إلى كل هذا أثناء خدمته فى القاعدة كجندى احتياطى وتسريبه لما وقع تحت يديه لاحقا فى دردشة جماعية على منصة Discord التى تجذب عشاق الألعاب الإلكترونية.

لم تتضح بعد كل التداعيات لما كشفه تيشيرا، فهذا من المبكر جدا، حيث تقوم الدول التى ذُكرت فى الوثائق بإجراء تدقيق للمعلومات وما عليها اتباعه فى علاقاتها مع الولايات المتحدة، وما عليها القيام به لتأمين نفسها من الوقوع ضحية لتجسس جديد من واشنطن أو غيرها.

يبلغ إليسبرج اليوم 92 عاما، وما زال يمثل مصدر إلهام لكل من يرغب فى المزيد من الشفافية والعلانية لما تقوم به سرا الحكومات حول العالم. عمل إليسبرج محللا عسكريا فى مشروع بالبنتاجون فى عام 1971، وقرر إليسبرج نشر سجل وثائقى واسع لتورط الولايات المتحدة فى حرب فيتنام، وهو ما عرف لاحقا باسم «أوراق البنتاجون». غيّر الكشف عن هذه التفاصيل المزاج الأمريكى العام تجاه الحرب، ودفع بالمحكمة العليا إلى أن تصدر قرارا تاريخيا بشأن حرية الصحافة، مما أثار رد فعل مبالغا فيه من الرئيس ريتشارد نيكسون أدى مباشرة إلى الفضائح التى أنهت رئاسته.
كان إليسبرج فى ذلك الوقت من قدامى المحاربين فى سلاح مشاة البحرية يبلغ من العمر 40 عاما، وحاصل على درجة الدكتوراه من جامعة هارفارد، وعمل فى وزارتى الدفاع والخارجية ومؤسسة راند. كما كان إليسبرج فى تلك الفترة من صقور أنصار الحرب وضرورة الانتصار فيها وذلك قبل ذهابه إلى فيتنام فى عام 1965 حيث انقلب منذ ذلك الحين ضد الحرب والمبررات الرسمية لها.

تمكن إليسبرج وزميله فى مؤسسة راند، أنتونى روسو، من نسخ 7 آلاف من الوثائق السرية والسرد التاريخى للحرب فى فيتنام من أرشيف البنتاجون الذى توفر جزء منه فى مؤسسة راند التى تربطها بالبنتاجون علاقات ضخمة ومعقدة.

عرض إليسبرج الوثائق على عدد قليل من أعضاء مجلس الشيوخ الذين كانوا من منتقدى الحرب. وقال إنه يأمل أن يعقدوا جلسات استماع، أو يُدخلوا الوثائق فى سجلات الكونجرس، لكنهم لم يكونوا على استعداد للقيام بذلك، وشجعه أحدهم على الذهاب إلى صحيفة نيويورك تايمز. وبالفعل ذهب إليسبرج بالوثائق للصحيفة التى نشرت أول فصولها فى 13 يونيو 1971 على الصفحة الأولى.
كشفت الأوراق أن الولايات المتحدة ذهبت إلى الحرب ليس لإنقاذ الشعب الفيتنامى من الشيوعية، ولكن للحفاظ على «قوة ونفوذ وهيبة الولايات المتحدة.. بغض النظر عن الظروف فى فيتنام».
ولخص إليسبرج الأمر فى وقت لاحق بالقول: «كنا نعلم دائما أنه لا يمكننا الفوز أبدا». ومع ذلك، استمرت الحرب وفُقد المزيد من الأرواح لأن القادة الأمريكيين لم يكونوا مستعدين للاعتراف بعدم جدوى الحرب أو قبول إذلال الهزيمة.

كان رد الفعل على نشر الأوراق فوريا. حصلت وزارة العدل فى عهد الرئيس ريتشارد نيكسون على أمر من قاضٍ فيدرالى يأمر صحيفة التايمز بالتوقف عن نشر الأوراق، وهو ما دفع إليسبرج لمشاركة الأوراق مع صحيفة واشنطن بوست التى تناولت من حيث توقفت صحيفتها المنافسة.
اتُهم إليسبرج فى نهاية المطاف بانتهاك قانون التجسس، وقُدر مجموع عقوبات التهم الموجهة إليه بالسجن لمدة إجمالية قدرها 115 عاما. لكن فى غضون ذلك، أحيلت الأوامر ضد الصحف إلى المحكمة العليا، وصوت القضاة بأغلبية 6 أصوات مقابل 3 أصوات لقرار استمرار النشر.
بينما كان إليسبرج ينتظر المحاكمة حاول البيت الأبيض فى عهد نيكسون استخدام وسائل أخرى مختلفة لتشويه سمعته، لكن فى النهاية رفض قاض فيدرالى يشرف على محاكمة إليسبرج كل التهم الموجهة إليه.

على مدى السنوات العشر الماضية، عانت الحكومة الأمريكية وأجهزتها الاستخباراتية من أربع تسريبات ضخمة هزت ثقة العالم بها، وهزت ثقة المواطنات والمواطنين الأمريكيين فى حكوماتهم التى تقوم بالتجسس غير القانونى عليهم.

إذ فى عام 2010، نُشرت برقيات دبلوماسية من قبل موقع ويكيليكس الذى أداره جوليان آسانج، حيث تم الكشف عن عدد هائل من الوثائق العسكرية السرية المسربة، توضح تفاصيل ممارسات القوات الأمريكية على العراق فى الفترة ما بين عامى 2004 و2009. كذلك تم الكشف عن مئات الآلاف من البرقيات الدبلوماسية الأمريكية من سفاراتها حول العالم.

وفى عام 2013 كشف إدوارد سنودن عن برامج التجسس التى تقوم بها الحكومة الأمريكية فى الداخل (ضد المواطنين الأمريكيين) وفى الخارج، وفى عام 2016 سُربت تفاصيل برامج وأدوات القرصنة التابعة لوكالة الأمن القومى (NSA) ووكالة المخابرات المركزية CIA.

تختلف جميع التسريبات الضخمة فى أسبابها وتفاصيلها، لكن لها دائما تأثيرين؛ إن الكشف عنها يلحق الضرر بالمنظومة الأمنية، وبالتالى يتم البحث فى سبل تأميم أفضل للوثائق السرية والحساسة. من ناحية ثانية توفر التسريبات فرصة لتعزيز النقاش العام حول القضايا محل التسريب خاصة بعد معرفة المزيد من التفاصيل الهامة.

نخلص مما سبق، أنه وعلى الرغم مما تقوم به الحكومة الأمريكية الآن، وما ستقوم به لاحقا لتأمين المعلومات والوثائق، من المؤكد أن الاختراقات والتسريبات ستحدث مرة ومرات أخرى.

(الشروق المصرية)
التعليقات (0)