قضايا وآراء

هدية قيس سعيد للغنوشي.. الغرائزية السياسية تفني أصحابها دائما

بحري العرفاوي
سُجن الغنوشي بسبب تصريح سياسي وليس بسبب تهم جنائية- جيتي
سُجن الغنوشي بسبب تصريح سياسي وليس بسبب تهم جنائية- جيتي
لماذا هذه المرة وليس في المرات السابقة؟ لقد مثُل الغنوشي بعد الانقلاب مرات عديدة أمام القضاء التونسي وبتهم عديدة ومختلفة، وفي كل مرة لا يجدون دليلا مقنعا لإيداعه السجن، هل "أجرم" الرجل فعلا هذه المرة؟ هل وجد القاضي دليلا مقنعا لحبس الرجل؟ ثم لماذا بتلك الطريقة المتعجرفة يتم التعامل معه قبل إثبات التهمة؟ ولماذا هذه العجلة؟

لو أنهم وجهوا له دعوة كما اعتادوا لاستجاب كما اعتاد، وهو الذي صرح من البداية بأنه يحترم الدولة ويحترم القضاء.

مداهمة منزل الأستاذ راشد الغنوشي عند آذان المغرب واقتياده، يراد به إحداث صدمة لتحقيق هدفين:

- أولا: إشباع نفسي غرائزي للغاضبين من سعيد الذين يرونه فاشلا وعاجزا، وقد تدنّت شعبيته وانسدت أمامه -حتى الآن- مصادر الإقراض والدعم، في ظل غلاء المعيشة وندرة كثير من المواد الاستهلاكية.

الذين يفكرون بعقل الدولة لا يمكن أن يمارسوا السياسة على قاعدة استرضاء الناس وإنما على قاعدة خدمة الناس، إنهم يعرفون أن الأحقاد والنكاية والتنكيل كلها أساليب لا تبني مشاريع ولا تحقق تنمية ولا تضمن سيادة وطنية

- ثانيا: ترهيب معارضي الانقلاب ومحاولة استفزاز المتحمسين منهم واستدراجهم للشارع وإقامة الحجة عليهم، ثم التصرف معهم بالطريقة التي يتمناها المستعجلون على حسم المعركة قبل حصول تطورات قد تكون في غير صالح الانقلاب.

ولكن هل يعلم قيس سعيد أن الأستاذ راشد الغنوشي لم يعد يخشى شيئا على نفسه، بل ربما يتمنى أن ينتهي شهيدا بدل أن ينتهي "مهزوما" أو "فاشلا" كما يريد بعض الإعلاميين تصويره؟ الغنوشي يعبر دائما عن كونه خائفا على البلاد، وقد أكد قوله هذا في عدة مناسبات حين اجتهد في تعطيل قانون تحصين الثورة وقانون المحاسبة وعمل على إرساء "التوافق" الذي ما زال يرفعه مبدأ ثابتا لحد الآن.

محاسبة الغنوشي أو غيره ممن تثبت عليهم تهم؛ لا يرفضها عاقل طالما احتُرمت الإجراءات القانونية واستقلالية القضاء وقرينة البراءة وكرامة المشتَبهين.

إن الذين يفكرون بعقل الدولة لا يمكن أن يمارسوا السياسة على قاعدة استرضاء الناس وإنما على قاعدة خدمة الناس، إنهم يعرفون أن الأحقاد والنكاية والتنكيل كلها أساليب لا تبني مشاريع ولا تحقق تنمية ولا تضمن سيادة وطنية.

حديث الغنوشي عن "حرب أهلية" ليس دعوة لها بل تحذير منها بسبب ما يراه من دعوات وممارسات استئصالية ضد أي طرف، ذكر اليساريين والعروبيين والإسلاميين والليبراليين، فهو ضمنيا يحذر من خطاب استئصالي يراه في كل الجهات.

منافسو الغنوشي وخصومه يمكنهم مواجهته سياسيا وفكريا وقيميا، وهي طرائق تعبر عن مدى تحضرنا وتمدننا وعقلانيتنا، ولا جدوى ولا لياقة في أساليب النكاية والتشفي والترذيل، فقد عانت البلاد وما زالت تعاني تبعات عقدنا النفسية وعجرفتنا وفشلنا في الاستفادة من طقس الحرية العارمة طيلة عقد ممطر.

إن حبس الغنوشي بتهمة تصريح سياسي وقع تأويله، هو تبرئة له من أبشع كذبة، "سرقة مال الدولة".

على أنصار الحقيقة تأكيد هذه الفكرة حتى لا يقع تلبيسٌ على عموم شعبنا الذي يتحايلون على حسن نواياه وعلى طيبته، الغنوشي لم يثبتوا عليه طيلة التحقيقات السابقة أي تهمة، وخاصة في مسألة المال العام، "والجهاز السري"، فلم يجدوا غير تأويل سياسي لتصريح حول علاقة دعوات الاستئصال بالفوضى أو بـ"الحرب الأهلية"، وهو تحذير تعوُد الغنوشي إطلاقه، فلم يكن طارئا على خطابه.

حبس الغنوشي بتهمة تصريح سياسي وقع تأويله، هو تبرئة له من أبشع كذبة، "سرقة مال الدولة". على أنصار الحقيقة تأكيد هذه الفكرة حتى لا يقع تلبيسٌ على عموم شعبنا الذي يتحايلون على حسن نواياه وعلى طيبته، الغنوشي لم يثبتوا عليه طيلة التحقيقات السابقة أي تهمة، وخاصة في مسألة المال العام، "والجهاز السري"، فلم يجدوا غير تأويل سياسي لتصريح

هل تكون عملية حبس الغنوشي قفزة استباقية لمنع اتفاق حول مبادرة عضو المكتب السياسي لحركة النهضة الأستاذ محمد القوماني؟ المبادرة عرضها في السهرة الأخيرة لجبهة الخلاص الوطني، مساء 15 نيسان/ أبريل 2024، حيث قدم مداخلة في ست نقاط بحضور زعيمي الجبهة الغنوشي والشابي، وجوهر فكرته ممارسة معارضة السلطة القائمة من داخل مؤسساتها، أي الاعتراف بأن الانقلاب صار أمرا واقعا وعلينا معارضته من داخله، وهو يرى أن قيس سعيد فرض أجندته في مواعيدها، في حين ما زالت المعارضة لم تتوفق في أن تكون بديلا، بل يرى أنها تزداد ضعفا بسبب الاعتقالات والتضييقات وحتى الخلافات.

دعوته كانت واضحة: تحول جبهة الخلاص الوطني بمكوناتها المختلفة إلى حزب وطني كبير يقدم برنامجا واضحا للناس، ويرشح منافسا لقيس سعيد في انتخابات قادمة.

أعتقد أن الفكرة الأخيرة هي المزعجة وهي سبب إيقافه بعد يوم واحد من الندوة. من عرفوا الأستاذ محمد القوماني، يعرفون أنه رجل صاحب فكر حر، يؤمن بالتجديد ولا يكف عن طرح الأسئلة ولا يقبل بمسلمات دون تفكير ونقد، ولا يجد حرجا في الاعتراف بخطأ والقيام بمراجعات دائمة. محمد القوماني رجل حوار لا يدعي امتلاك الحقيقة ولا يتعصب لموقف أو رأي، يؤمن بالتنافس الهادئ دون عنف لفظي أو مادي، ومثل هذا السياسي يزعج السلطة التي تنزع نحو التسلط والاستبداد.

فالنوازع الاستبدادية عادة هي نوازع غرائزية وأصحابها عاجزون عن خوض الصراعات الفكرية، ويخشون أصحاب الرأي ويفضلون عليهم الغوغائيين مروّجي الأوهام والعنتريات؛ لأنهم يساعدونهم في دفع منافسيهم نحو منطقة التعصب والانفعال ليسهل عليهم إدانتهم والتنكيل بهم.

بعد كل هذه الاعتقالات، ما الذي بإمكان السلطة تقديمه الآن للفقراء والمعطلين ولسوق المواد الغذائية؟ هل سينفع الناس أن الغنوشي ورفاقه في سجن المرناقية؟ هل حققت تونس سيادتها الوطنية؟ هل تحقق انتصار في معركة تحرير؟

بعد كل هذه الاعتقالات، ما الذي بإمكان السلطة تقديمه الآن للفقراء والمعطلين ولسوق المواد الغذائية؟ هل سينفع الناس أن الغنوشي ورفاقه في سجن المرناقية؟ هل حققت تونس سيادتها الوطنية؟ هل تحقق انتصار في معركة تحرير؟

إنها ليست إلا مجرد جرعة غرائزية انتقامية سيصحو من بعدها الناس ليسألوا: وما دخلنا في معارككم على السلطة؟ وما منفعتنا من خطابات التخوين والتجريم والترذيل والتشويه ولم تُستعد أموال منهوبة ولا ثروات مسروقة و"لا قروض استولى عليها لصوص العشرية السوداء"؟

مع الأسف، الحرية التي يشترك في الاستفادة منها وبنفس القدر مصلحون ومخربون تنتهي إلى هيمنة التفاهة والسخف، وتمنح فرصة لأصحاب العقد النفسية كي يشيعوا أحقادهم وافتراءاتهم.

سنن التاريخ لا تتأخر قط في نتائجها، قانون الفيزياء ومبدأ "التداعي الحر"، ليس مجاله فقط عالم الطبيعة، وإنما مجاله أيضا عالم التاريخ.

البلاد تعصب رأسها وتوشك أن تفقد أعصابها، أملنا في بعض العقلاء الأسوياء؛ علّنا ننقذ بعض ما تبقى ونرمم بعض ما تهشّم.

twitter.com/bahriarfaoui1
التعليقات (0)