واحدة من الصور التي ستبقى خالدة في تاريخ
اللعبة أولا وفي تاريخ
قطر ثانيا وفي تاريخ المواجهات الحضارية ثالثا، هي صورة أمير
دولة قطر الشيخ تميم بن حمد وهو يُلبس أسطورة الكرة العالمية ميسي "
البشت
القطري". ما كان المحلّ الصغير لصناعة "البشوت" بسوق واقف التقليدي
في قلب الدوحة ليتصور يوما أن اسم علامته التجارية "بشت السالم" سيجوب
أرجاء العالم دون أن ينفق على دعايته مليما واحدا ودون أن يعلم حتى بذلك. ولم يكن
أمير قطر وهو يُلبس البطل الأرجنتيني ثوب الوجاهة القطرية يعلم أنّ اسم صانع البشت
موجّه نحو عدسة المصوّر لأن اسم العلامة موجود داخل الثوب لا خارجه بل كانت لقطة
عفوية فارقة.
على الجبهة المقابلة كانت حمى السعار تضرب
عددا من الأذرع الإعلامية الغربية التي وصفت الثوب الفاخر "بلباس
الحمّام" في وصف يكشف حجم الحقد الأسود الذي أصاب أصحابها. كما انبرى آخرون
إلى التهجم على البلد المنظم واصفا الصورة بأنها سطو على المنجز الأرجنتيني.
قراءة في سياق الموقعة
لا يمكن فهم ما حدث خاصة من جهة شراسة ردود
الفعل الغربية دون العودة إلى السياق الذي حدد طور الصعود الأخير لدولة قطر
وتحولها من مسطح ملحي صحراوي ودولة هامشية إلى قوة إقليمية ودولية ناعمة. لن نعود
إلى التاريخ البعيد أو المتوسط بل سنقتصر على المرحلة التي تمتد على مسار إسناد
كأس العالم وتحديدا منذ سنة 2010 إلى يوم
المباراة النهائية شهر كانون الأول (ديسمبر) 2022.
تم يوم 2 كانون الأول (ديسمبر) 2010 الإعلان
عن فوز الملف القطري بتنظيم كأس العالم 2022 ورفع الشيخ حمد بن خليفة الكأس أمام
كوكبة من الصحفيين ومجموعة من المسؤولين القطريين. في هذه اللحظة لم يكن لأحد أن
يتصوّر حجم التحديات والصعوبات والحروب الإعلامية والحصار والحملات الممنهجة التي
ستتعرض لها البلاد بسبب ذلك.
لا أحد أيضا كان يتوقع انفجار الثورات
العربية وسقوط أنظمة كاملة في وقت قياسي وتحول النظام الإقليمي تحولا جذريا لا
تزال أصداؤه تتردد في المنطقة مشرقا ومغربا. وهو التحوّل الذي دفعت فيه الدوحة
فاتورة باهظة بسبب دعمها في البداية مطالب الشعوب ثم رفضها في مرحلة ثانية دعم
الانقلابات الدامية على هذه المطالب خاصة في مصر وتونس وسوريا واليمن وليبيا.
نشأ خلال العشرية الأخيرة سياق عربي محلي وإقليمي
ودولي خاص شكّل العناصر الضاغطة على المسار القطري بقوة شديدة، خاصة خلال الطور
الثاني الذي انطلق مع محاولة الانقلاب العسكرية في تركيا صيف 2016، ثم الحصار
الانقلابي في قطر انطلاقا من صيف 2017.
"موقعة البشت" أو "لحظة البشت" هي اللحظة الأخيرة في المسار الذي انطلق في 2010 والذي لن يكون ما بعده كما كان قبله لا من ناحية التهديدات التي ستضل قائمة بفعل السياق والتغيرات الدولية لكن من ناحية قدرة الدوحة على الصمود وردّ الفعل على هذه التهديدات
تشكّل في هذه المرحلة تحالفٌ عربي إقليمي
ودولي غربي استهدف الدوحة بعد التقاء المصالح الغربية في المحافظة على أنظمة
الاستبداد ومنع سقوطها، مع خوف الأنظمة الإقليمية من رياح التغيير والمطالبة
بالديمقراطية. في هذا المربّع تحديدا وقعت الدوحة ضحية التشهير والشيطنة والتخوين
وصولا إلى محاولات الغزو العسكري وإسقاط النظام بالقوة المادية، كما صرّح بذلك من
واشنطن الشيخ صباح الأحمد الجابر الصباح أمير دولة الكويت رحمه الله وغفر له.
كانت الموجة قوية جدا ولم تهدأ إلا مؤخرا
بعد قمة العلا والمصالحة الخليجية رغم محاولات الخلايا النائمة في الغرب إحياء
الصراع وإذكاءه إلى اليوم، كما شهدت على ذلك حملات التشويه خلال كأس العالم ومجموع
الأكاذيب في البرلمان الأوروبي.
كأس العالم ونهاية الطور الثاني
"موقعة البشت" أو "لحظة
البشت" هي اللحظة الأخيرة في المسار الذي انطلق في 2010 والذي لن يكون ما
بعده كما كان قبله، لا من ناحية التهديدات التي ستضل قائمة بفعل السياق والتغيرات
الدولية لكن من ناحية قدرة الدوحة على الصمود وردّ الفعل على هذه التهديدات. لقد
اكتسبت الدوحة مناعة عالية من خلال قدرتها على امتصاص الضربات الخارجية الساعية
إلى منعها من استكمال مشاريع البناء الداخلي وتعطيل مسار التحديث ووضع أسس التحصين
النهائية.
أكدت قطر من خلال كأس العالم على قدرات
تنظيمية وتواصلية عالية، وأثبتت للعالم أنها قادرة على منافسة الكبار في مجالات
القوة الناعمة والتفوق عليهم. أدرك العرب أيضا أن كل التهم التي كيلت ضد قطر ليست
مجرد أكاذيب فقط بل هي في الحقيقة موجهة ضد العرب والمسلمين لا ضد الدوحة فقط.
شعبيا أيقنت الجماهير القادمة إلى قطر من كل أصقاع العالم وغيرهم ممن شاهدوا
المونديال من خارج قطر وقد تجاوز عددهم الخمسة مليارات نسمة أن العرب ليسوا كما
يصورهم الإعلام العالمي إرهابيين، بل هم شعوب منتجة مبدعة قادرة على الفعل وإنجاح الفعل
متى توفرت لهم شروط ذلك.
هذه الكأس علامة إضافية من علامات تحول مراكز القوى الدولية نحو الشرق خاصة إذا نجحت الأنظمة العربية والخليجية في اقتناص الفرصة ووضع خلافاتها جانبا وتأسيس مشروع نهضة جماعي يحقق الرخاء للجميع ويعيد للمنطقة كرامتها وعزتها وتاريخها المجيد.
لكن أهم وأخطر ما حققته قطر خلال الكأس هو
رفض التنازل الحضاري عن القيم والأسس الثقافية للشعب والدولة بما هي جزء من نسيج
أكبر. رفض تناول الكحول في الملاعب ورفض رفع علم الشواذ ورفض المشاهد الخادشة
للحياء.. كانت العناوين الأبرز التي أججت أحقاد الإعلام الغربي لأنها فعل كاسرٌ
لطوق الهيمنة الثقافية الغربية.
هنا جاءت لحظة البشت العفوية لتغلق الدائرة
التي دُشّن طورها الأول في 2010، ولتؤكد تشبث الدوحة بالمبادئ التي أسست عليها
تصورها لرؤية 2030. لحظة حضارية عفوية أكدت برمزيتها العميقة حضور البصمة العربية
في نهائي تاريخي بين الأرجنتين وفرنسا التي لم تتوقف منابرها الإعلامية يوما خلال
المونديال وقبله عن شيطنة قطر والهجوم عليها.
كأس العالم العربية تاريخ لن يُنسى بعد فوز
السعودية على صاحب اللقب وفوز تونس على وصيف البطل فرنسا وبلوغ المغرب دور النصف
النهائي، ونجاح قطر في الاستضافة والتنظيم. هذه الكأس علامة إضافية من علامات تحول
مراكز القوى الدولية نحو الشرق، خاصة إذا نجحت الأنظمة العربية والخليجية في اقتناص
الفرصة ووضع خلافاتها جانبا وتأسيس مشروع نهضة جماعي يحقق الرخاء للجميع ويعيد
للمنطقة كرامتها وعزتها وتاريخها المجيد.