المعجزة بين الأسطورة والواقع في التفسير القرآني (1من2)

الكتاب: "المعجزة بين الأسطورة والواقع في التفسير القرآني، قراءة في تفسير الفخر الرازي"
المؤلف: د. مؤيد أحمد خلف
الناشر: دار روافد، لبنان، الطبعة الأولى، 2022م
عدد الصفحات : 245 صفحة.

تسللت التصورات الأسطورية والخرافية إلى التفسير القرآني الحكيم، والفهم الديني، وكثيرا ما ربطها المفسر بأحواله عصره، وتطورات زمانه، وفسرها البعض بصورة مجتزأة، ليعالج قضية يطرحها، أراد من خلالها الاستدلال القرآني لتأييد صحة طرحه، دراسة خلف هذه تناولت قراءة في تفسير القرآن من خلال كتاب الفخر الرازي، الذي أعطى حيزا كبيرا للإيمان بالمعجزات والكرامات، وأبرزت الدراسة الفهم الخرافي على غرار النصوص الميثولوجية للحضارات القديمة، والأساطير التي غطت المعتقدات الدينية قبل فجر الإسلام العظيم، وقدمت الدراسة معالجة عقلانية علمية متفقة مع سنن الله سبحانه وتعالى في الكون، مؤكدة على حالة الانسجام بين الأمر التكليفي مع الكوني دون جحود لكتاب الله المنظور في السماء والأرض، وأكدت بما لا يدع مجالا للشك وجود اتفاق متين بين الدين والعلم الواقعي الحقيقي.

نوه الكاتب في مقدمته أنه جمع جزءا من الأساطير والخرافات المرتبطة بالمعجزات في تفسير فخر الرازي" تناولت بالدراسة ما أشتهر وظهر، وما ارتأيته يحقق الكفاية"، وعن سبب اختياره تفسير الفخر الرازي المشتهر بالتفسير الكبير ومفاتيح الغيب؛ كونه من أجَّل التفاسير ويكاد يخلو من الإسرائيليات، التي وفرت بيئة خصبة للخرافات والأساطير، ومع ذلك يؤكد خلف أن الدراسة كشفت عن مدى حضور الخرافات، والأساطير في هذا التفسير، هذا مع على الرازي من عقلانية وحكمة تميز بها عن علمائه عصره.(ص2)

قسمت الدراسة إلى مقدمة وخمسة فصول وخاتمة، وهي عبارة عن أطروحة دكتوراه نوقشت عام 2022م، والرازي هو أبو عبد الله محمد بن عمر بن الحسن المعروف بالفخر الرازي، وبابن خطيب الري، كان علامة وقته في العلوم، ونبغ في العقليات، بل إنه وصف بسيد الحكماء (ص7)، وقد اعتقد الرازي بالكرامات والمعجزات في كونها خرقاً لقوانين الكون، ولكنه أكد وجوب الإفادة بالدلائل العقلية واليقين، دون الدلائل اللفظية، وفرق الرازي بين الكرامة والمعجزة مع اتفاقهما في الخرق، بأن جعل المعجزة تكون على سبيل التحدي؛ وبذلك تخرج من جنس الكرامات، ومع انسداد المعجزة بخاتم النبيين محمد الكريم فإن طريق الكرامات مفتوح، ولما كان القرآن معجزة النبي محمد صلى الله وعليه وسلم، الباقية خلافاً لسائر معجزات الأنبياء غير الباقية، صارت أفضل المعجزات، ونبينا الأفضل على سائر الأنبياء أجمعين (ص10).

الدراسة غنية بالتفاصيل والمعارف والتصحيح الخاطئ للتفسير القرآني الذي مضى عليه عقود دون وجود محاولة للفهم العميق والاستبانة الصحيحة مما ورد في القرآن الكريم، ففي الفصل الأول، المعجزة بين الخرافة والعلم، جاء خلف بتعريف المعجزة، واشكاليتها، وفرق فيه بين الكرامة والمعجزة والسحر، والانسجام بين الأمر الشرعي والأمر الكوني، ومصادر العلم في القرآن.

يقول الكاتب: "مجتمعاتنا بحاجة لفاعلية عقلية دينية تؤسس على العلم، وسنن الكونية وآياته في كتابه المنشور؛ في الخلق والطبيعة والآفاق، ونقد ديني يؤسس لعقل إنساني متطور من الأسطورة والخرافة إلى العقلانية التي تعتمد كل الاعتماد على العلم؛ لأن الدين مكون أساس للعقل العربي، ودون ذلك سيظل المتعلم العربي مجرد أداة إجرائية تابعة وعاجزة عن الإبداع والتقدم، ولديه قابلية مستكنه لإنكار العلوم وعدم الوثوق بها، إذا ما تعارضت مع معرفته الخرافية  الأسطورية المعاجزة؛ لأنها خرافة اكتسبت القداسة الدينية" (ص17).

ومن ثم يضيف: إذا شاءت الأمة الإسلامية الازدهار والتقدم العلمي، فينبغي عليها تكريس المنهجية العقلانية العلمية في فهم كتاب الله، فمنه يمكن تغيير العقلية العربية المسلمة، وإلا فستظل تجتر العجز والخرافات، باسم الحق والهدى، وستظل بذلك تسمم الفكر.

عالج الكاتب إشكالية مصطلح المعجزة، الذي لم يرد في القرآن الكريم، أو حتى الحديث النبوي، ولا في أقوال السلف أيضاً، والمعجزة في دلالتها الخوراقية مفهوم خرافي أسطوري، يأتي خارج نطاق الوعي الواقعي، وعكس البينة المدركة عقلاً، ولذلك يقول: "إن القول بالمعجزات دعوة صارخة لإنكار آيات الله الكونية، وجحود فعله سبحانه، وجهل سننه السائرة التي لا تتبدل في هذ النشأة، وصدق الله العظيم في قوله" الشمس لا ينبغي لها  أن تدرك القمر، ولا الليل سابق النهار" فكل شيء يسير على هديه فلا يضل عنه. (ص28)

يتساءل الكاتب ولكن سرعان ما صارت المعجزة في الفكر الإسلامي أصلاً من الأصول، فمن أين جاءت؟

إن استخدم القرآن عوضاً عن المعجزات، كلاً من البينات والآيات والبرهان والسلطان والحجة وكلها فيها معاني الوضوح والعقلنة، ولكن ذلك لم يرق لأهل الأديان السابقة، وأصحاب المعتقدات الأسطورية السابقة، الذين قدموا مصطلح المعجزة بما يحمله من تعطيل للعقل واستقالة للمنطق وعكس للبينة والبرهان، فدخلوا أهل الكتب السماوية من يهود ونصارى الإسلام بمعتقداتهم، وكتبهم التي استندت على الموروثات الأسطورية والخرافية، من بابل في العراق، إلى ممفيس في مصر، فصار الفكر المعجزي دخيلاً على الإسلام مع الفتوحات الإسلامية التي جابت الشرق والغرب "فأدخلت المعجزات من دياناتهم ومعتقداتهم في سباق تنافسي لغير الناطقين بالعربية، الذين لن تكفيهم المعجزة البيانية العقلية القرآنية، مع أن ميزة الإسلام تكمن في غياب المعجزة النبوية سوى القرآن نفسه، إذ هو معجزة عقلية غير مادية، فراحت تتضخم المادية للرسول الكريم المناقضة للقرآن الكريم، ووصلت عند البعض نحو ثلاثة آلاف معجزة بحسب السيرة الحلبية في القرن الحادي عشر الهجري بعد أن كانت عشر معجزات في القرن الثالث الهجري"!!( ص23).

إن استخدم القرآن عوضاً عن المعجزات، كلاً من البينات والآيات والبرهان والسلطان والحجة وكلها فيها معاني الوضوح والعقلنة، ولكن ذلك لم يرق لأهل الأديان السابقة، وأصحاب المعتقدات الأسطورية السابقة، الذين قدموا مصطلح المعجزة بما يحمله من تعطيل للعقل واستقالة للمنطق وعكس للبينة والبرهان، فدخلوا أهل الكتب السماوية من يهود ونصارى الإسلام بمعتقداتهم،

أما حالة الانسجام  بين الأمر الشرعي والأمر الكوني، فيقول الكاتب إن "الإصلاح الديني من التصالح بين العقل السليم والعلم الطبيعي؛ لأن العلم الطبيعي هو آيات الله في كونه المنشور وعلى المسلم أن يزعن لآياته هذه تماما، كما يزعن لآياته في كتابه المسطور، إذ لا فرق بين الكتاب المتلو والكتاب المنظور".

ويضيف إن كلمات الله نوعان؛ كلمات كونية، تدخل تحت قوله تعالى: "إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ" ، "وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا "، والنوع الآخر كلمات دينية، وهي القرآن وشرع الله الذي بعث به رسوله، وهي أمره ونهيه وخبره، فالأولى تدبيرية كونية، تعرف بالعلم الحوادث الكونية، والثانية شرعية، تعرف بالعلم بالمأثورات الشرعية، والقرآن الكريم كتاب الله المسطور، فلا ينبغي فهمه من خلال جحود آيات الله في كتابه المنشور وكونه المنظور، فما أودع الله في الكون من أمر وهدى وقوانين لا تتعارض مع أمر الشريعة (ص45).

رأى خلف أن تفكيك الفهم الأسطوري الذي تموضع في تفسير القرآن الكريم، والذي جنح له فيه المفسرون إلى الخرافات المناقضة لسنن الله الكونية وقوانينه الطبيعية، يتطلب تصوراً متماسكاً ومنسجماً، يتبع منهجية واحدة في انتفاء التعارض بين كلام الله في كتابه المسطور، وآياته في كتابه المنظور، ويتركز ذلك على ثلاثة أركان تتمثل في البيان العربي البلاغي، والعلم القائم على العقل، والحواس، والتجربة؛ ليصل المؤمن إلى حالة الثقة العقلية القائمة على البرهان( ص46).

ومن ثم ناقش الكاتب في الفصل الثاني المعجزة في الظواهر الطبيعية المتمثلة في انحباس الشمس عن الجريان، وانشقاق القمر لنصفين، وانفلاق البحر طرقا ونوافذ، وما عادت النار تحرق، وصارت الرياح مركبة جوية لسليمان، وإلانة الحديد لداوود، ونزول مائدة الطعام من السماء، فعندما كان الإنسان تعوزه المعرفة العلمية الخدماتية لجأ إلى التمائم والرقي والاستشفاء بالقرآن فيحرك في النفس قوة مقاومة المرض؛ أما اليوم فلم يعد مقبولاً التشافي العضوي بآيات القرآن الكريم؛ لأن الله سبحانه وتعالى لم يقل ذلك، وإنما قال في القرآن: " وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُور" أي شفاء للعقول والنفوس من عقائدها الباطلة، واضطرابها النفسي، وليس علاجاً للأمراض الجسدية والعلل العضوية، ولكن الناس قديماً بما لديهم من اعتقاد خرافي في قوة الرقية المكتوبة، أو التمائم المعلقة، أو الكلمات المدعوة من إكسابهم الوهم والأمل، وفي بعض الحالات ذات المنشأ النفسي عاد عليهم بمردود ايجابي. (ص56)

انحباس الشمس

أوردها الرازي في سياق الاستدلال على بعثة النبي محمد الأمين، وأخذها من مرويات السابقين، حين توقفت الشمس والقمر عن مجراهما، دون أي نكران لأي منهما، مع منافاتها للمعقولات والسنن الكونية، وإنما ذلك لكون المعجزة مقبولة في خرقها للنواميس الطبيعية، وفند الكاتب الحديث الذي أورده أبو هريرة، من أن نبيا غزا، فدنا من القرية صلاة العصر أو قريبا من ذلك، فقال للشمس، إنك مأمورة وأنا مأمور، اللهم احبسها علينا، فحبست حتى فتح الله عليه، الغنائم".

ويؤكد الكاتب بأنه لا غرابة أن يأتي هذا الحديث عن أبو هريرة، الذي هو  تلميذ كعب الأحبار اليهودي الذي تلقن عنه الاسرائيليات، ونهل من خرافاته، وكان أبو هريرة أكثر الصحابة انخداعا به، وثقة فيه، ورواية عنه"، فهذا الحدث من نصوص التوراة الواضحة والمعنون ب " بالشمس تقف في كبد السماء" من سفر يوشع (ص58)، ولم يخل عهد النبي الكريم من تلفيق روايات تدل على تحكمه بحركة الشمس، وأورد الكاتب من الأساطير الهندية واليونانية والمصرية ما يتوافق مع هذا الحدث، الأمر الذي لا يتسع المجال لذكرها هنا، وذلك دل على مدى سطوة الرواية على العقل لدى العلماء السابقين، ولكن بقاء الاجرام الفلكية سنة من سنن الله في هذا الكون فالشمس والقمر آيتان من آيات الله....واثبات تعطيل سير هذه السنن وفق مشيئة الله محتاج إلى دليل بنفس قوة الدليل الأول، من ناحية الثبوت والدلالة"؛ ومشيئة الله قضت"  فيقول سبحانه وتعالى في كتابه:" الشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا ۚ ذَٰلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيم" .

انفلاق البحر

فسر الرازي حادثة انفلاق البحر، في عهد فرعون مصر بطلب من موسى عليه السلام، حينما ضرب بعصاه البحر، حتى قيل أن موسى سحر البحر، وغرق فرعونه وقومه، وبين الرازي أن ريح الصبا هبت على أرض البحر، بعد انفلاق الماء، لتجفيفها إذ كانت موحلة، فجفت، فكان فيه طريقا يابساً، فكانت هذه الواقعة معجزة باهرة، أزالت عن قلوبهم الشكوك والشبهات، ودلت على وجود الصانع الحكيم وصدق موسى، حاول الكاتب خلف توضيح سياق الحدث بشكل طبيعي، بعيداً عن خرافات الخوارق، دون تضخيم الحادثة، على اعتبار أن انحسار الماء انحساراً طبيعياً، ليست مسألة مهمة، وإنما انحساره في اللحظة التي أرادوا فيها العبور، ورفض التصوير الذي صوره سفر الخروج لعبور البحر، رفضاً قاطعاً، ورفض الرواية في سياقها الفني المبتور كونها لم تأتي على كل ملابسات الحوادث الطبيعية، واستوجبت التعرف على الأساليب الخطابية والصور البلاغية في القرآن الكريم..

ولذلك يتساءل الكاتب عن معنى انفلاق البحر بعصا موسى عليه السلام؟ (ص74)، فيجيب مستعيناً بالخرائط والرسومات والوثائق الأثرية: "إن انتصار موسى وأتباعه، وحدوث المخرج لهم عبر شعبة البحر الأحمر، الذي كان يشهد مداً وجزر قبل ارتباطه بالبحر الأبيض المتوسط من خلال قناة السويس؛ بحيث عندما لحق فرعون وجنوده، وكان البحر من أمامهم، لم يكن متاحاً لهم حتى يقطعوه، إلى جهة سيناء، إلا في منطقة ذات سبخات وبحيرات، ومناطق منخفضة تمتد عدة كيلو مترات، وتشكل جزرا مائية".

وأرفق الكاتب الصور التوضيحية بها جزر ترك لهم قاعاً في البحر يبساً، جففتها الرياح الشرقية، ورفض ما أجمع عليه المفسرين عند تناولهم لهذه الحادثة تجاهلهم واقع المنطقة، التي تشهد ظاهرة المد والجزر، وتتصف بالانخفاض؛ حيث أنها من خليج السويس حتى البحر الأبيض تتوافر على سبخات ومستنقعات وبحيرات، وما حدث مع موسى عليه السلام، هو التوفيق من الله في وصوله وقت الجزر، مما سمح له ولشعبه بقطع هذه المياه الضحلة، الفاصلة بين جزر مائية ومستنقعات وبحيرات، ووفقهم لاختيار طريق آمن وسط المخاطر (ص71).