أعلن السيسي يوم الاثنين (26 كانون الأول/ ديسمبر 2022)، في احتفال رسمي وبصورة
مفاجئة، عن وجود صندوق سيادي خاص بالصحة تم إنشاؤه عام 2019، وفيه حاليا رصيد مالي
تراكمي قدرة 70 مليار جنيه
مصري، بهدف وجود رصيد مالي احتياطي يفيد في دعم تطبيق قانون
التأمين الصحي الشامل الجديد. وجاءت تلك التصريحات متناقضة تماما مع جميع
التصريحات المعلنة رسميا من المسؤولين في الحكومة المصرية حول مصادر
تمويل التأمين
الصحي، حيث لم تسبق أية إشارة رسمية من قبل إلى هذا الصندوق السيادي ومن الذي
يديره وما هي مصادر تمويله وبنود الصرف المستهدفة من إنشائه.
مشكلة
مصر الأساسية تكمن في ضعف الإنفاق الحكومي على الرعاية الصحية:
السبب الرئيسي
تدهور أحوال الرعاية الصحية في مصر هو ضعف مخصصات وزارة
الصحة في موازنة الحكومة؛ والتي
تبلغ نسبتها 1.4 في المئة فقط من إجمالي الناتج المحلي، بما لا يلبي الاستحقاقات
الدستورية حسب المادة 18 من دستور 2014؛ والتي تنص على أن تبدأ بنسبة لا تقل عن 3 في
المئة وقتها، وتزيد تدريجيا لتبلغ النسبة العالمية، وحيث أنه قد مضت ثماني سنوات
على ذلك الدستور، فإن الإنفاق الحكومي على الصحة يأتي هذا العام بالمخالفة الصريحة
لتوصيات منظمة الصحة العالمية؛ بأنه يجب أن تكون في حدود النسبة العالمية والتي
تبلغ من 7 إلى 10 في المئة من أجمالي الناتج المحلي.
زاد من خطورة نقص مخصصات وزارة الصحة في الموازنة العامة أنه قد تم استقطاع نسبة من تلك المخصصات وتجنيبها داخل صندوق الصحة السيادي، بمعنى أنه لم يتم إنفاقها في حينها حسب البنود الواردة في الموازنة؛ مما أدى إلى القصور في تنفيذ المشروعات الاستثمارية في الصحة، حيث تراجعت أعداد المستشفيات الحكومية
وزاد من خطورة
نقص مخصصات وزارة الصحة في الموازنة العامة أنه قد تم استقطاع نسبة من تلك
المخصصات وتجنيبها داخل صندوق الصحة السيادي، بمعنى أنه لم يتم إنفاقها في حينها
حسب البنود الواردة في الموازنة؛ مما أدى إلى القصور في تنفيذ المشروعات
الاستثمارية في الصحة، حيث تراجعت أعداد المستشفيات الحكومية من 692 مستشفى عام
2018 لتصبح 662 مستشفى فقط عام 2021، حسب تقرير الجهاز المركزي للإحصاء في شهر
نيسان/ أبريل 2022. وتفاقمت مشكلة هجرة الأطباء، مع تحذير نقابة الأطباء من تزايد
استقالات الأطباء بسبب ضعف الأجور وفساد بيئة العمل الحكومي، وزيادة معاناة
المواطنين والتي ظهرت بوضوح خلال سنوات وباء كورونا، وتغول أسعار المستشفيات
الخاصة بسبب ضعف جاهزية المستشفيات الحكومية، في حين كانت أموال صندوق الصحة
السيادي تتراكم في سرية تامة منذ عام 2019، ودون أدنى مردود على صحة وسلامة
المواطنين.
تمويل
التأمين الصحي يعتمد على ما يتم تحصيله من المواطنين إضافة إلى القروض الأجنبية
والاستثمارات الخاصة:
وبحسب قانون التأمين الصحي رقم 2 لسنة 2018؛ فإنه يتم تحصيل الاشتراكات الإلزامية من جميع المواطنين بنسبة محددة من إجمالي الدخل الشهري. ويشمل الاشتراك جميع
أفراد الأسرة، وحصة أصحاب الأعمال فيما يخص نسبة العاملين، والمساهمات وهي رسوم من
قيمة الخدمات يدفعها من يحتاج الخدمة الصحية من المشتركين، وعائد
استثمار أموال الهيئة، والتزامات الخزانة العامة عن غير القادرين، ومقابل الخدمات
الأخرى التي تحددها الهيئة بخلاف ما يتضمنه هذا القانون، في حين يتم التركيز على المنح
الخارجية والداخلية والقروض التي تعقدها الحكومة لصالح الهيئة.
وفي حزيران/ يونيو
2020 كشف البنك الدولي وثائق مشروع قرض جديد لمصر، لمساندة نظام التأمين الصحي
الشامل بقيمة 400 مليون دولار. وفي 6 تشرين
الأول/ أكتوبر 2021 أعلن الدكتور فابيو جرازي، المدير الإقليمي للوكالة الفرنسية
للتنمية في مصر، أنه "تستهدف الوكالة الفرنسية للتنمية دعم الحكومة المصرية
في مد تغطية نظام التأمين الصحي الشامل في 6 محافظات"، في حين أعلن الممثل
الرئيسي لمكتب هيئة التعاون الدولي اليابانية (جايكا) في مصر، أن "جايكا"
تشارك الحكومة المصرية في أولوية تحقيق التغطية الصحية الشاملة، لضمان حصول جميع
الأشخاص على خدمات صحية عالية الجودة دون مواجهة صعوبات مالية.
وأخيرا وفي شهر أيار/
مايو 2022، أعلن مدير هيئة الرعاية الصحية في التأمين الصحي عن استمرار التعاون
والشراكة مع البنك الدولي للتدخلات المستقبلية لدعم نجاح مشروع التأمين الصحي
الشامل. وقد أكد د. محمد معيط، وزير المالية ورئيس هيئة التأمين الصحي، أن البنك
الدولي والوكالة الفرنسية للتنمية وهيئة التعاون الدولي اليابانية ومنظمة الصحة
العالمية؛ هم شركاء في التنمية بهدف تدشين الدعم المالي والفني لمنظومة التأمين
الصحي الشامل لمصر بما يقرب من مليار دولار. ومن ناحية أخرى، فقد كانت الهبات
والإعانات والتبرعات التي يقبلها مجلس إدارة الهيئة تغطى جانبا هاما من تمويل التأمين الصحي، إضافة إلى فرض الرسوم
على منتجات التبغ، والمواد الملوثة للبيئة، ورسوم المرور بالطرق، والتراخيص الطبية
وغيرها من مصادر التمويل التي ترهق المواطنين ماديا.
تغول القطاع الخاص والاستثماري بسبب
عدم جاهزية البنية التحتية في المؤسسات الصحية الحكومية:
وكان وزير الصحة قد أعلن بتاريخ 12 شباط/ فبراير 2018 أن
"مصر تعلن للعالم كله أن تطبيق التأمين الصحي الجديد سوف يبدأ خلال ستة أشهر
بعد نشر القانون وإنشاء كيان ذي استدامة مالية"، على أن يتم تقسيم محافظات الجمهورية إلى ست
مجموعات تشمل ست مراحل زمنية للتطبيق؛ تنتهى خلال خمسة عشر عاما من تاريخ إصدار
اللائحة المالية للقانون، والتي صدرت بالفعل في بداية عام 2018، ولكن ونظرا لعدم وجود جاهزية للبنية التحتية للصحة
تسمح ببدء المشروع في حينه، فقد تأخر التطبيق لحوالي سنتين، حيث تم الإعلان عند
بدء أولى محافظات المرحلة الأولى، وهي محافظة بورسعيد الساحلية، بنهاية شهر تشرين
الثاني/ نوفمبر 2019، وبعدد سكان في حدود المليون نسمة فقط.
ونظرا لضعف البنية التحتية في محافظة
بورسعيد، فقد تم تفعيل القانون رقم 76 لسنة 2010، والذي يتعلق بتنظيم الشراكة بين القطاعين
العام والخاص، وهو القانون الذي يلزم الحكومة في
حالة عدم القدرة على الصرف بأن تقوم بإدخال شريك معها. وقد
تم استحواذ مجموعة كليوباترا التابعة لشركة أبراج كابيتال الإماراتية على مستشفى
التضامن، ومجموعة دار الفؤاد على مستشفى الزهور، ومجموعة المغربي للعيون على
مستشفى الرمد، ومجموعة مجدي يعقوب على مستشفى الأطفال التخصصي. وكان اللافت للنظر
هو الإعلان عن ذلك أمام المواطنين بعد تغيير اللافتات على واجهات المستشفيات، في إجراء واضح لتطبيق منظومة
الخصخصة لمنشآت الرعاية الصحية.
"وثيقة سياسة ملكية
الدولة" وبيع الأصول أصبحت مصدرا تمويليا هاما لتطبيق قانون التأمين الصحي الجديد:
في يوم الخميس (29 كانون الأول/
ديسمبر 2022)، أعلن رئيس مجلس الوزراء المصري أنه وردت إلى المجلس الموافقة الرئاسية
على وثيقة "سياسة ملكية الدولة"؛ ومن خلالها سوف يتم طرح مستشفيات حكومية
مصرية للاستثمار أمام القطاع الخاص. وتنفيذ "سياسة وثيقة
ملكية الدولة" يتم من خلال تقسيم قطاعات الحكومة إلى ثلاث
فئات محددة بثلاثة ألوان، وسيعني اللون الأخضر تخارج كامل من الدولة في هذه
القطاعات والأنشطة، ويعني اللون الأصفر تثبيت أو تخفيض حصة الدولة في هذه الأنشطة
الاقتصادية، أما اللون الأحمر يعني استمرار أو زيادة الدولة لاستثماراتها في هذه
القطاعات نظرا لما تتسم به هذه القطاعات من أبعاد استراتيجية أو اجتماعية، بحسب
الخطة الحكومية.
وتعتبر الصحة والتعليم ضمن قطاعات اللون الأحمر، وبناء
عليه فقد طرحت
الحكومة المصرية، عدداً من المستشفيات التابعة لوزارة الصحة للاستثمار أمام القطاع
الخاص، بما يتضمن حق الانتفاع، أو الإدارة، أو التطوير، بحسب تصريحات المتحدث
الرسمي باسم وزارة الصحة وقتها، حيث قال: "تستهدف مصر تسريع وتيرة النمو
بزيادة مشاركة القطاع الخاص في القطاعات الاقتصادية عبر تخارج الدولة من بعض
الأنشطة، وتقدم الحوافز الضريبية والجمركية لجذب الاستثمارات الأجنبية".
مصطلح "وثيقة ملكية الدولة" يعني ضمنيا بيع الأصول وليس مجرد التخارج أو الإدارة كما أعلنت الحكومة، إضافة إلى أن توسيع دائرة الشراكة مع القطاع الخاص يعني ترسيخ فكرة الربحية، والتي أصبحت هي الهدف الأساسي المعلن في خدمات الرعاية الصحية، وهذا يؤدي إلى إضافة المزيد من الأعباء المالية على المواطن المصري
وفي 24 تشرين الأول/ أكتوبر 2022، (ثاني
أيام المؤتمر الاقتصادي مصر- 2022)، أعلن رئيس الوزراء رسميا طرح المستشفيات
الحكومية للاستثمار أمام القطاع الخاص بهدف الربحية، حيث قال: دعونا نتوافق على نموذج لبعض هذه المستشفيات وتسليمها للقطاع
الخاص لإدارتها، والاستفادة من القدرات الهائلة للقطاع في هذا الشأن، للمحافظة على
استدامة هذه الكيانات الصحية بنفس مستوى بنائها، مع صيانتها بصفة دورية، طارحا بعض
الأفكار للمناقشة لتحقيق عوائد مالية للقطاع الخاص تغطي نفقات تشغيل المستشفيات
وتحقيق ربح.
وجاءت الحلقة الأخيرة من تفسير وثيقة سياسة ملكية
الدولة؛ في ثالث أيام المؤتمر الاقتصادي، حيث أعلن السيسي عن عرض جميع المستشفيات
الحكومية على القطاع الخاص، في خطوة غير مسبوقة نحو الخصخصة الكاملة لقطاع الرعاية
الصحية الحكومية، وهذا يعني نقل الصحة من مجموعة قطاعات اللون الأحمر إلى قطاعات
اللون الأخضر.
ومصطلح "وثيقة ملكية الدولة" يعني
ضمنيا بيع الأصول وليس مجرد التخارج أو الإدارة كما أعلنت الحكومة، إضافة إلى أن
توسيع دائرة الشراكة مع القطاع الخاص يعني ترسيخ فكرة الربحية، والتي أصبحت هي
الهدف الأساسي المعلن في خدمات الرعاية الصحية، وهذا يؤدي إلى إضافة المزيد من
الأعباء المالية على المواطن المصري.
صندوق الصحة السيادي أثبت فشله في دعم التأمين الصحي
خلال الأعوام الأربعة الماضية منذ عام 2019 وحتى الآن:
عجز وفشل صندوق الصحة السيادي في دعم التأمين الصحي، ليظل هذا الصندوق لغزا غامضا لم يتم الكشف عن جدواه الحقيقية حتى الآن، في حين تبقى القاعدة الأساسية والتي أشار إليها السيسي في نفس الاحتفال "بعدم صحة بناء مسار منتظم على فرضية غير منتظمة!!". وهذا الكلام يعني أن الاعتماد على التبرعات أو على القروض الخارجية
وخلاصة القول هي أن تطبيق قانون التأمين الصحي
الجديد ما زال متعثرا حتى الآن في عدد من محافظات المرحلة الأولى، قليلة الكثافة
السكانية، بالرغم من مرور خمسة أعوام على إصدار القانون في شهر كانون الثاني/ يناير
2018، وبالرغم من تجنيب مبلغ 70 مليار جنيه في صندوق الصحة السيادي، والذي أشار
إليه السيسي باعتباره داعما للتأمين الصحي.
وهذا يدل على عجز وفشل صندوق الصحة السيادي في دعم
التأمين الصحي، ليظل هذا الصندوق لغزا غامضا لم يتم الكشف عن جدواه الحقيقية حتى
الآن، في حين تبقى القاعدة الأساسية والتي أشار إليها السيسي في نفس الاحتفال "بعدم
صحة بناء مسار منتظم على فرضية غير منتظمة!!". وهذا الكلام يعني أن الاعتماد
على التبرعات أو على القروض الخارجية؛ والذي تعتمده الدولة حاليا ليس هو المسار الصحيح،
ولكن الاستراتيجية الصحيحة هي في ضرورة زيادة نسبة الإنفاق الحكومي على الصحة حسب
المعدلات العالمية حتى يتم ضمان الديمومة والاستمرارية في تقديم خدمات الرعاية
الصحية، بحيث تشمل الكفاية والكفاءة من حيث الجودة والعدالة والمساواة لجميع
المواطنين بصورة عامة.