قضايا وآراء

السيسي ومتلازمة السلطة (2)

محمود النجار
كرر السيسي تهديداته لكل من يقترب من كرسي الرئاسة- جيتي
كرر السيسي تهديداته لكل من يقترب من كرسي الرئاسة- جيتي
في تصريح لمستشار السيسي النفسي د. عكاشة سنة 2018، أفاد بما ملخّصُه أن أي حاكم يحكم ثماني سنوات يصاب بمتلازمة السلطة، بمعنى أنه يعتاد على السلطة ويصعب عليه التخلي عنها، وتصبح مرضا يصعب الخروج منه. كما أنه يشعر بأنه مبعوث العناية الإلهية لإنقاذ الشعب، وتتضخم لديه ضلالات العظمة؛ فيسهب في الكلام ظانا أنه يقول حكما وفلسفة وإبداعا، وأن جهتين فقط لهما الحق في مساءلته عما يفعل هما: الله والتاريخ. ومن صفات هذا الحاكم أيضا أنه دموي ومتبلد العواطف، وعلى جاهزية دائمة للانتقام من الخصوم وتدميرهم، إضافة إلى الشعور بالنشوة في أثناء خطاباته. وحين صرح د. عكاشة بذلك لم يكن السيسي قد أتم ثماني سنوات في الحكم بعد..

* * *
في مشهد سوداوي، وبعد أن ادعى أنه مستعد للتخلي عن السلطة في أكثر من مناسبة، وأنه راغب في وجود منافسين حقيقيين في الانتخابات الرئاسية التي جرت مرتين 2014 و2018، قام السيسي باعتقال سامي عنان الذي انتوى الترشح لانتخابات 2018، وتم الإفراج عنه بعد سنتين، بسبب تدهور حالته الصحية، كذلك فقد قام باعتقال أحمد قنصوة، وهو عقيد في الجيش المصري، أعلن في كانون الأول/ ديسمبر 2017 ترشحه للانتخابات الرئاسية، وما زال معتقلا، بينما تراجع كل من المحامي المعروف خالد علي ومحمد أنور السادات ومرتضى منصور عن الترشح لأسباب مختلفة، يغلب الظن أنها في الأولَين جاءت بالضغط أو النصح من المقربين، وأما مرتضى منصور فادعى أنه لم يستطع الحصول على التوكيلات اللازمة. كذلك انسحب أحمد شفيق، ولم يتم اعتقاله كما كان متوقعا، لا سيما أنه عاد إلى مصر بضمانات إماراتية، حيث كان يقيم في أبو ظبي. وقد انسحب من الانتخابات بعد أن هدده السيسي بالتحقيق في قضايا فساد سابقة مرفوعة ضده.
ما سبق ذكره يؤشر مباشرة على جاهزية السيسي للانتقام من الخصوم وتدميرهم وتلويث سمعتهم، فهو لا يتخيل نفسه خارج إطار السلطة المطلقة، ومستعد لحرق مصر وشعبها لقاء البقاء حاكما أوحد

وفي الأثناء صرح السيسي عدة تصريحات تؤشر على عمق التيه والضلال الذي يعيشه، حيث قال خلال إعلانه ترشحه للرئاسة أنه لن يسمح للفاسدين بالاقتراب من كرسي الرئاسة، وأنه يعلم الفاسدين جيدا وماذا فعلوه، وهو ما أشار له د. عكاشة حين قال ما مفاده أن الحاكم بعد أن يعتاد على السلطة؛ يصعب عليه التخلي عنها، وتصبح مرضا يصعب الخروج منه..!!

كذلك فإن ما سبق ذكره يؤشر مباشرة على جاهزية السيسي للانتقام من الخصوم وتدميرهم وتلويث سمعتهم، فهو لا يتخيل نفسه خارج إطار السلطة المطلقة، ومستعد لحرق مصر وشعبها لقاء البقاء حاكما أوحد. وقد كان من أعنف تصريحاته ذلك التهديد والوعيد الأحمق حين قال إبان الترشح لانتخابات 2018: "ما تسمعوش كلام حد غيري"، مكررا الجملة بعنف وتحد وجلافة وتهديد ووعيد، وبلغة جسد تنم عن صورة "البلطجي" الذي يُرعب الحيّ بثقافة التنمر والافتئات على الناس. ثم يضيف بذات القسوة والجلافة: "قسما بالله اللي حيقرب لها لأشيله من فوق وش الأرض"، يتحدث عن مصر، وبين قوسين يقصد "الرئاسة".

ولأن السيسي يعرف جيدا بأنه غير موثوق من الشعب، وقد اتسعت رقعة النقد والفضح لتصريحاته بالمقارنة مع أفعاله وإجراءاته، فكان أن قال بحزم وجدية عالية: "أنا راجل لا بكذب ولا بلف وأدور، ولا ليا مصلحة غير بلدي.. بلدي بس وفاهم أنا بقول إيه".. كلام رخيص وهش ليس له تفسير سوى أنه يكذب، فعلم النفس الاجتماعي يشير إلى أن تكرار نفي الشخص لصفة ما عن نفسه؛ دليل دامغ على كونها إحدى صفاته الملازمة له. وقد كرر السيسي نفي الكذب عن نفسه مرات عدة، ومارس الكذب بشكل سافر في مواقف تستعصي على العد، ولا تخفى على المتابع لخطاباته الرديئة. وهو في كل ما يقول يعتقد أنه يصدّر للأمة إبداعا فكريا استثنائيا، وفلسفة خارقة لحدود العادي.
لأنه يعتقد أنه خارج المساءلة، وأن من يحق له محاسبته فقط "الله والتاريخ"، فهو يشط بعيدا في كل ما يقوم به من أفعال، فهو لا يُسأل عما يفعل، وهو الوحيد الذي يجب أن يُسمع صوته، ولا ينبغي لغيره أن يتكلم أو يوجه الناس إلا بأمره وتعليماته

وهو دموي متبلد العواطف، ولديه كامل الاستعداد للقتل خارج القانون أو به موجَّها توجيها إجراميا؛ والأدلة على ذلك كثيرة، منها فض اعتصامي رابعة والنهضة وحرق الجثث بعد إطلاق النار على الآلاف في الميدانَين كليهما، ناهيك عن مذبحة مسجد مصطفى محمود، وأضف إلى ذلك مئات المعتقلين الذين قتلوا في السجون بالإهمال الطبي، وعلى رأسهم الشهيد د. محمد مرسي رحمه الله. ولم يسلم من إجرامه شخص مثل الطالب الإيطالي جوليو ريجيني الذي عُذب وقُتل ورُمي في العراء. ثم تم قتل خمسة أشخاص مصريين يستقلون سيارة بدعوى أنهم قتلة ريجيني من خلال فيلم هندي فاشل ومكشوف، ويؤشر على أمرين موجعين، الأول: البلاهة وضعف الأداء وهشاشته، وسوء التخطيط، والثاني رخص الدم المصري الذي ينز من شرايين الأمة ومفاصل حياتها اليومية، علما بأن جريمة قتل الأبرياء الخمسة لم يُحاسب عليها أحد، وطوي ملفها كأن شيئا لم يكن..!!

ولأنه يعتقد أنه خارج المساءلة، وأن من يحق له محاسبته فقط "الله والتاريخ"، فهو يشط بعيدا في كل ما يقوم به من أفعال، فهو لا يُسأل عما يفعل، وهو الوحيد الذي يجب أن يُسمع صوته، ولا ينبغي لغيره أن يتكلم أو يوجه الناس إلا بأمره وتعليماته، لذلك فهو على صدام مع مشيخة الأزهر التي لم تحذُ حذو وزارة الأوقاف ودائرة الإفتاء في ارتهانهما المذل لإرادة حاكم أرعن متسلط على رقاب العباد؛ فتجده المخطط والمنفذ في كل كبيرة وصغيرة، وهو المقاول والمهندس والمحامي والقاضي والتاجر والصانع والمزارع والمستورد والمورد، وهو محافظ البنك المركزي وصانع سياساته النقدية، وهو القائد الأعلى للجيش.. هو كل شيء، وغيره لا شيء؛ وليس من حق أحد أن ينصح له أو يوجهه أو يعارضه، وإلا كان مصيره غياهب السجون أو مخالب المنون.

وهو إلى ذلك كله -مما لم يذكره د. عكاشة عن هذه الشخصية- "لص" لا يحلل ولا يحرم، ولديه نزعة استحواذية شرسة (Illegal possession tendency) ؛ فهو لا يتوانى عن الاستيلاء على مكتسبات الآخرين وأموالهم وعقاراتهم ومصالحهم التجارية، وعن تمكين القوات المسلحة والأجهزة الأمنية من ممارسة النشاط الاقتصادي بكل تنوعاته، والاستيلاء على أي قطاع يدر أرباحاً عالية، في وقت تعاني فيه البلاد من أزمة اقتصادية عنيفة.
وإضافة إلى متلازمة السلطة يعاني السيسي من متلازمة خطيرة وهي متلازمة استوكهولم (Stockholm syndrome)، وتعد هذه المتلازمة عكس متلازمة السلطة، وهما تجتمعان في شخصية السيسي في ذات الآن

والأمثلة على ذلك لا تعد ولا تحصى، ومنها استيلاء العسكر على كثير من المرافق التجارية والصناعية الحساسة وطرد القطاع الخاص من السوق، وتدمير الاقتصاد لفائدته وفائدة أسرته والمنافقين من حوله، ومن ذلك ما حدث لمصنع جهينة للألبان الذي يقبع صاحبه السبعيني في السجن بغير جريرة، لا لشيء سوى أنه رفض التخلي عن أسهم شركته لفائدة العسكر. ومحاولة السيطرة على سوق الصيدلة من خلال صيدليات "19011" التي أعلنت إفلاسها بعد فشلها الذريع، والتي كانت تعمل تحت إشراف ابنه محمود السيسي.

وإضافة إلى متلازمة السلطة يعاني السيسي من متلازمة خطيرة وهي متلازمة استوكهولم (Stockholm syndrome)، وتعد هذه المتلازمة عكس متلازمة السلطة، وهما تجتمعان في شخصية السيسي في ذات الآن، لكن متلازمة استوكهولم تعمل خارج إطار الأخرى، فهي تنطبق على الشخص حين يتعاطف مع المجرم أو العدو ويظهر الولاء له، ويبدي مشاعر المؤازرة والتضامن تجاهه، وهو ما يحدث تماما في علاقة السيسي بالكيان المحتل؛ فهو شغوف بأمن الكيان، ولطالما ردد ذلك في خطاباته ولقاءاته الإعلامية. وقد تحول ذلك المرض إلى خيانة عظمى، يجب أن يحاكم عليها، فهو في سبيل تدعيم أمنه السياسي والدعم الدولي لاستمرار حكمه؛ مستعد لفعل أي شيء ممكن مهما كان شائنا ومهينا؛ ذلك أنه مدفوع بتضخم الذات للتحالف مع شياطين الجن والإنس لفرض نفسه على محيطه المحدود بحدود مصر بعد أن فرط في حضورها الإقليمي والدولي، لصالح الإمارات والسعودية والكيان المحتل، وارتمى في أحضان زعماء الغرب ككائن رخو يتسول اعترافا هنا، واعترافا هناك.

وفي الوقت نفسه هو مستعد للإطاحة بأي قوة معنوية كانت أو مادية تشكل شبهة خطر على حكمه، وهو غير مستعد لإفساح مكان للآخر الوطني أو التكامل معه بحال من الأحوال، حتى لو كان في ذلك إنقاذ البلد وتحسين الأوضاع الاقتصادية. وفي المحصلة فالسيسي يمثل في منزلته بين المتلازمتين قول الشاعر:

تبدو على أبناء عمك فارساً    وعلى عدوك سائساً أفراسَهُ
التعليقات (3)
سمية
الثلاثاء، 06-12-2022 05:01 م
مقال رسم ملامح الدكتاتور بطريقة فذة أنت منارة للفكر الحر أستاذ محمود و صوتنا حين تعز اصوات الحق الحارقة نعم هذا هو وجه السيسي القذر الذي فاق أسلافه حقارة و ذلا
متابع
الثلاثاء، 06-12-2022 12:52 م
مزيدا من التألق الكاتب الكبير محمود النجار
متابعة تونسية
الثلاثاء، 06-12-2022 12:36 م
كانت هذه المقالة تكملة مهمة لما سبق، وأنا أعرف أن من الصعب الإلمام بكل شيئ بالنسبة لك ولغيرك طبعا، وغير مطلوب منك أن تحصي كل أخطاء وعيوب السيسي. وقد أعجبني حديثك عن متلازمة أستوكهولم وحسن توظيفها في المقال، وننتظر بشوق الحلقة أو الحلقات القادمة أستاذنا الكريم. نتمنى لك التوفيق دائما، وثق أننا نقرأك بشغف وإعجاب.