قضايا وآراء

الباشا "الاستراتيجي".. رفض القروض وقناة السويس

هشام الحمامي
رفض محمد علي الاستدانة لحفر قناة السويس- جيتي
رفض محمد علي الاستدانة لحفر قناة السويس- جيتي
ستظل مقولة روسو (ت: 1778 م) أن الفطرة أهدى من العقل؛ صحيحة ما بقيت الفطرة وما بقي العقل. والاثنان بغض النظر عن ترتيب أهميتهما هما بالفعل "جوهر الشرط الإنساني" ولن يبقى للإنسان من بعدهما إلا الصورة الماثلة.. على أنه ليس ثمة تنافس كبير بينهما، لاختلاف حضورهما في وعي الإنسان بنفسه..

فحضور الفطرة في الوعي سيكون دائما إلى الأكمل والأروع بغير شروط، وحضور العقل في الوعي سيكون غالبا إلى الأجدى والأنفع ولكن بشروط!.. ما هي هذه الشروط؟

سيقول لنا من كانوا قبلنا، أنها عدد كبير من الشروط تدور حول العلم والمعرفة والخبرة، والتجربة والتي يؤكدون عليها، ويصفوها بأنها هي مرآة هذا العقل..
بما أن الأشياء تعرف ببعضها سواء كانت أشباه أو أضداد، سنجد أن كل ما حذِره وخاف منه محمد علي بالفطرة كان أكثر ما سبب بالغ الأضرار لمصر من بعده.. بل لقد السبب المباشر في احتلالها لثمانين سنة، أيضا كان سببا في كل ما ترتب على هذا الاحتلال من كوارث، تسلسلت معقودة الحلقات كل حلقة تصنع أخته

* * *
سيكون لمحمد علي باشا مؤسس مصر الحديثة (ت: 1849م) نصيب كبير من الاثنين.. لكنه كان حين يحتدم عليه الأمر سنجد أن مقولة روسو تتقدم إلى الأمام وحدها. وبما أن الأشياء تعرف ببعضها سواء كانت أشباه أو أضداد، سنجد أن كل ما حذِره وخاف منه محمد علي بالفطرة كان أكثر ما سبب بالغ الأضرار لمصر من بعده.. بل لقد السبب المباشر في احتلالها لثمانين سنة، أيضا كان سببا في كل ما ترتب على هذا الاحتلال من كوارث، تسلسلت معقودة الحلقات كل حلقة تصنع أختها؛ في سلسال تاريخي به من البساطة والبداهة، ما يفتح "باب الاتهام" على اتساعه ليقف على أعتابه كل من شارك في صنع هذا التاريخ..

* * *
وكان أكثر هذا الذي حذر منه محمد علي، وخافه، هو ذاك الذي يعطى الطامعين الذريعة، ليس فقط لتقييد "استقلال مصر"، بل واحتلالها والسيطرة التامة عليها..

كان الرجل قد أهتدى بـ"فطرته" إلى ما اهتدى اليه جمال حمدان (ت: 1993م) بـ"عقله"..! وهي حقيقة أن مصر في طول التاريخ وعرضه قِبلة الطامعين.. وهذا فقط، لأنها هي كما هي! جغرافيا على اليابسة.

سيقول لنا العلامة حمدان في عمله العظيم "شخصية مصر": أما الموقع فهي قلب العالم المعمور وهي ركن الزاوية بين القارات، وهي مفتاح جغرافيا لكل الأبواب.. الشرق والغرب، البحر والبر، الهند والروم، فارس واليونان.. ويضيف: تفرد موقع مصر صنع كل تاريخها القديم والوسيط والحديث بل والمستقبل أيضا، فإن قوة جاذبية الموقع وعظمة الموضع كانتا المغناطيس الجاذب للطامعين من كل صوب وحدب، فكانت مصر الدولة الأكثر احتلالا والمستعمرة الأكثف استعمارا على مر التاريخ.. انتهى كلام جمال حمدان.

وما كان محمد علي ليأتي إلى مصر لو لم يأت إليها نابليون بونابرت (ت: 1821م) من سنوات قليلة قبله.. وهو الذي خرج من بلاده واجتاز البحر الأبيض صائحا: "قل لي من يسيطر على مصر.. أقل لك من يسيطر على العالم".

* * *
اهتدى الباشا بفطرته الاستراتيجية وفقا لذلك كله إلى "الضرورة الاستراتيجية" لغلق أي باب من تلك الأبواب التي قد يأتي منها "ريح الخطر".. فرفض حفر "قناة السويس" ورفض "الاقتراض" من البنوك الأوروبية.. وأقام مشروعه الاستراتيجي الضخم في "أم الدنيا" بأموال مصرية خالصة
اهتدى الباشا بفطرته الاستراتيجية وفقا لذلك كله إلى "الضرورة الاستراتيجية" لغلق أي باب من تلك الأبواب التي قد يأتي منها "ريح الخطر".. فرفض حفر "قناة السويس" ورفض "الاقتراض" من البنوك الأوروبية.. وأقام مشروعه الاستراتيجي الضخم في "أم الدنيا" بأموال مصرية خالصة.. وترك خزانة الدولة وفيها ما يقرب من 90 مليون فرنك.

* * *
ورغم أن مشروع محمد علي اعتمد بالدرجة الأولى على ما أنجزه علماء الحملة الفرنسية ومن تبقى منهم، ومن عاد ورجع منهم، مثل ماتيو ديليسبس (ت: 1832م) والذي سنراه أول ممثل فرنسي رسمي في مصر بعد خروج فرنسا منها سنة 1801م، وتذكر كثير من المصادر التاريخية أنه كان له دور كبير وقت (الفراغ السياسي) في مصر بين عامي 1801، وعام 1805م السنة التي تسلم فيها محمد علي الحكم.. ويقولون إنه نشأت بينه وبين محمد علي صداقة شخصية قوية مهدت.. لمجيء ابنه فرديناند ليعمل مساعد قنصل لفرنسا في الإسكندرية سنة 1832م.. وعلى الرغم مما كان بين محمد علي وبين حالة "فرنسا ما بعد نابليون" من علماء ومستشارين وخبراء وبعثات.. إلا أنه رفض تماما أفكارهم حول حفر قناة السويس أو الاقتراض من أوروبا.

* * *
لكنه دهاء التاريخ كما يقولون.. وكيف كان ذلك؟

تقول الحكاية إن الصداقة العميقة بين والد فرديناند ديليسس والباشا؛ امتدت لتكون بين فرديناند وبن الباشا الرابع سعيد.. وهكذا الدنيا وهكذا الناس.. وهكذا التاريخ!!

سيأتي محمد سعيد باشا (ت: 1863م) إلى الحكم.. وسيستمر تسع سنوات |(من 1854م الى 1863م) ليفتح أخطر بوابات "ريح الخطر" التي طالما حذِرها وحذَر منها الباشا الكبير والاستراتيجي الكبير والده... وليدشن أول علاقة بائسة للاقتصاد المصري بالديون (1862م) والتي ستمتد إلى يوم الناس هذا.. ليس هذا فقط بل وسيمنح صديقه فرديناند امتياز حفر قناة السويس.

لا يمكن هنا أن ننسى لسعيد باشا أنه كان يحب المصريين، وأصدر ما يعرف بـ"اللائحة السعيدية" التي ملّكت الفلاحين الأراضي والعقارات، وكان هذا عملا عظيما بحق.. لأن الملكية من أهم دعائم المجتمع.

* * *
مات الخديوي سعيد ومصر مدينة لإنجلترا بـ11 مليون جنيه إسترليني، ولأن الاقتراض يعتبره علماء التاريخ الاجتماعي حالة "إدمان" كما قال تقرير على موقع "سي إن إن بيزنس" 16 كانون الأول/ ديسمبر، فقد قام الخديوي إسماعيل من بعده بتسريع عجلة الاقتراض على أقصاها.. لتصل مديونية مصر لدائني الخارج إلى 126 مليون جنيه إسترليني بقيمة وقتها.. وإنه ليعجز عن السداد.. وللمرة الأولى في التاريخ ستعلن أم الدنيا "إفلاسها" سنة 1876م..

سيتم تعيين مراقبين أجانب في الحكومة لمراقبة الإيرادات والمصروفات لضمان سداد الديون، وهو ما انتهى إلى النهاية التي كان لا بد من الانتهاء إليها.. الاحتلال الإنجليزي لمصر عام 1882م.

* * *
سيقوم أخر حكام الأسرة العلوية، الملك فاروق (ت: 1965م) بتسليم مصر إلى "الضباط الأحرار" سنة 1952م.. وليس عليها جنيها واحدا دَينا لأحد، وفى الخزينة العامة للدولة 450 مليون جنية إسترليني بقيمة وقتها.. والأهم أنها كانت دائنة لإنجلترا!!

* * *
ستدخل مصر بعدها في دوامة "الدوائر المغلقة" وستكون البداية من قناة السويس؟! فسيتخذ "الزعيم الخالد" قرار منفردا بتأميم قناة السويس دون الرجوع إلى أي مؤسسة من مؤسسات الدولة العريقة.. كما يذكر لنا المؤرخ الأكاديمي المتميز د. خالد فهمي.. منتبها ومنبها لنا إلى ما سيتبع هذه الحالة من "الانفرادية القاتلة" مما سيتتالى ويتتابع بعدها من الكوارث
ستدخل مصر بعدها في دوامة "الدوائر المغلقة" وستكون البداية من قناة السويس؟! فسيتخذ "الزعيم الخالد" قرار منفردا بتأميم قناة السويس دون الرجوع إلى أي مؤسسة من مؤسسات الدولة العريقة.. كما يذكر لنا المؤرخ الأكاديمي المتميز د. خالد فهمي.. منتبها ومنبها لنا إلى ما سيتبع هذه الحالة من "الانفرادية القاتلة" مما سيتتالى ويتتابع بعدها من الكوارث "سريعة التوالد" من هذه الانفرادية بأهم القرارات وأخطرها..

ستدور في "الغرف العالمية المغلقة" حوارات لن تطول على أي حال، إذ كان العالم كله وقتها (تشرين الثاني/ نوفمبر 1956م) في همّة ونشاط سريعين لتبديل مراكز بمراكز وقوى بقوى.. وستحدث "حرب السويس" والتي كان لا بد لها أن تحدث.. وحتى وإن لم يكن هناك ضرورة موضوعية لحدوثها، لكنها ستتكفل برسم ملامح الوجه الشرق أوسطي، كما كان يُراد أن تكون عليه خطوط هذا الوجه.

هي الفطرة إذن.. كما بدأنا.. لكنها في هذا الوقت وما بعده، وما سيليه من أوقات.. لن تكون أهدى من العقل.. ولن يكون العقل أهدى منها! فسيغيب الاثنان.

twitter.com/helhamamy
التعليقات (0)