أفكَار

هل يقدم مشروع فريد الأنصاري جوابا عن انسداد أفق الإسلاميين؟

تصور الأنصاري، المستوحى من نموذج الخدمة في تركيا، هو أقرب إلى بناء المجتمع الموازي للدولة
تصور الأنصاري، المستوحى من نموذج الخدمة في تركيا، هو أقرب إلى بناء المجتمع الموازي للدولة

ذكرى وفاة الدكتور فريد الأنصاري (توفي في 5 نوفمبر 2009) هذه السنة تحمل معها أسئلة عميقة تتعلق بمستقبل الحركات الإسلامية، وواقع الانسداد الذي تعانيه أغلب مكوناتها، وما إذا كان مشروع الأنصاري، يمثل خيارا للخروج من الأزمة، لا سيما بعدما ظهرت بعض المؤشرات على توجه بعض الحركات الإسلامية الكبرى إلى مراجعة الخيارات السياسية، والتفرغ للمهمة التربوية والدعوية.

الواقع أن مشروع الدكتور فريد الأنصاري لم تكتمل أجزاؤه وخطوطه دفعة واحدة، وإنما أخذ مسارا طويلا اعتمد جدل الانتظام في الحركة، والمسافة عنها، ثم تحقيق القطيعة، بالمعنى الذي تفيد التجاوز.

على أن ما يسم المراحل التي بصمت مسار الرجل كلها هو حضور البعد النقدي، وترتيب التصور بناء على مخرجاته، والإفادة من المنهجية الأصولية التي جعلها أداته في النقد، وأيضا في بناء التصور والمشروع الذي انتهى إليه، إذ ساعدته في ذلك مكانته العلمية (الاشتباك المعرفي بنظرية الشاطبي في المقاصد)، وحرصه الدائم على التأصيل سواء في مراسه النقدي أو في بنائه للمفاهيم التي تؤسس لمشروعه.
 
في البدء كان نقد الوساطة في التربية الدعوية

كانت أولى خطوات الأنصاري في التأسيس لمشروعه النقدي للحركة الإسلامية، كتابه: "التوحيد والوساطة في التربية الدعوية" الذي نشره سنة 1995، ضمن سلسلة كتاب الأمة الذي تصدره هيئة المحاكم الشرعية بقطر، وقد بدا نقده في الظاهر بمنحى فكري، استهدف بشكل خاص تأثيرات الفكر الصوفي والطرقي، مركزا على نقد فكرة الوساطة بمختلف أشكالها التربوية والفكرية والفقهية والصوفية في التاريخ الإسلامي.

في هذا الكتاب، كان النقد الفكري، ينطلق من قاعدة الانتظام في الحركة الإسلامية، ولذلك، لوحظ في مسلك الأنصاري تركيزه على الجهود التي قامت بها المشاريع النهضوية في تصحيح مفهوم التوحيد ونقد الوساطة في مختلف أشكال التربية، كما لوحظ عليه ثناؤه على الدور الذي قامت به الحركة الإسلامية في إعادة الاعتبار لهذا البعد التوحيدي في التربية، مع تسجيله بقاء لوازم كثيرة من تأثيرات الوساطة في التربية الفكرية والفقهية والدعوية، لا سيما في مناهجها التربوية، فوجه نقدا قاسيا لبعض مظاهر هذه الوساطة مثل ظاهرة "تمجيد التنظيمات" وظاهرة "الحزبية والتعصب" وظاهرة "الولاءات" وحرفها في قلب الأتباع من الولاء لله إلى الولاء للتنظيم، وقدم ملاحظة سوسيولوجية تتعلق بتنامي هذه الظواهر مع تقدم كسب الحركة الإسلامية وتمدد قاعدتها التنظيمية وصيتها الشعبي. وركز نقده على جماعة العدل والإحسان، باعتبارها تمثل الجماعة الصوفية التي لا زالت تعتقد أن صحبة الشيخ، ودلالته على الخير، واتباع مرجعيته، يشكل منهاجا نبويا للتغيير، بل يمثل المنهاج الوحيد القادر على انتشال الأمة من تخلفها.

ولم يقتصر فقط على نقد هذه الحركة، التي اعتبرها نموذجا يؤسس للوساطة في التربية الدعوية، بل تجاوز ذلك إلى نقد مختلف الوساطات الفكرية، التي تؤسس لفكرة تقديس اجتهادات قادة الحركات الإسلامية ومفكريها، وتحويل أفكارهم إلى عقائد منافسة لخاصية الإسلام في الخلود والصلاحية لكل زمان ومكان، إذ ركز بهذا الخصوص على مناهجها التربوية، وكيف تحولت كتب قادة الحركات الإسلامية إلى مراجع مصدرية في صياغة أفكار الأتباع وقناعاتهم، بل مراجع تشريعية ثابتة غير قابلة للتغيير، كما ركز نقده على ظاهرة تضخم الشخصانية وطغيانها، وبلغ به الحد أن وصف هذه الظاهرة بـ"الوثنية التنظيمية".

 

كانت أولى خطوات الأنصاري في التأسيس لمشروعه النقدي للحركة الإسلامية، كتابه: "التوحيد والوساطة في التربية الدعوية" الذي نشره سنة 1995، ضمن سلسلة كتاب الأمة الذي تصدره هيئة المحاكم الشرعية بقطر، وقد بدا نقده في الظاهر بمنحى فكري، استهدف بشكل خاص تأثيرات الفكر الصوفي والطرقي، مركزا على نقد فكرة الوساطة بمختلف أشكالها التربوية والفكرية والفقهية والصوفية في التاريخ الإسلامي.

 



ومع الجهد النقدي الذي قدمه فريد الأنصاري في هذا الكتاب، إلا أنه بقي في العموم ضمن سقف ممارسة النقد الفكري، ولم يتجاوز في نقده للحركات الإسلامية التركيز على نقد لوازم التربية الوساطية، أي أنه بقي يمارس النقد بمنطق الإصلاح ضمن النسق الحركي القائم، فتوجه إلى نقد مركزية الأشخاص ومخاطر تحويل التنظيم إلى صنم، دون توجيه النقد لبنية التفكير الحركي وثوابته وقواعده، وإنما كان حظ جماعة العدل والإحسان كبيرا، بحكم قيام براديغمها الحركي على فكرة الصحبة المتمحورة على الشخص، إذ لم يتجاوز نقده هذه القضية، ولم يصل حد وضع المشروع السياسي لهذه الجماعة في مشرحة النقد والتحليل، كما نالت جماعة الإخوان المسلمين أيضا حظها من النقد، ليس بسبب مشروعها الفكري وثوابته وقواعده في التفكير، ولكن بسبب القدسية التي يضفيها الأتباع على شخصية مرشدها وتحول أفكاره إلى مرجعية غير قابلة للتغيير أو حتى ممارسة النقد.

في نقد ظاهرة تضخم العمل السياسي

من المهم الإشارة إلى أن مشاركة الإسلاميين في العملية السياسية كان لها تأثير على كتابات فريد الأنصاري، فقد تحمل الرجل مسؤولية تنظيمية في حركة التوحيد والإصلاح (المسؤولية التربوية في الفترة الانتقالية للوحدة ما بين 1996 و1997) ثم ما لبث أن غادرها بعد خلافات مع بعض القيادات، لا سيما بعد المؤتمر الاستثنائي لحزب العدالة والتنمية (1996)، والذي وضع القاطرة أمام عربة المشاركة السياسية. ففي هذه المرحلة، الموسومة ذاتيا بالخلاف مع قيادات في التنظيم، ونقديا بملاحظة تضخم العمل السياسي في كسب الحركة الإسلامية، فقد نضج تصور جديد للأنصاري حول العلاقة بين الدعوي والسياسي، يميل فيه إلى تأكيد أصْلية العمل الدعوي وفرعية العمل السياسي، وأن ما كان فرعا وجب في حقه أن يكون تابعا لأصله. وهكذا وتبعا لهذا التأصيل، بنى فريد الأنصاري فكرة كتابه: "التضخم السياسي" على قاعدة أن العبادة هي غاية كل عمل إسلامي، دعويا كان أم ثقافيا أم اجتماعيا أم سياسيا أم نقابيا، وأنه في الحالة التي يقع الانحراف في المقاصد، وتنقلب الأولويات، يبدأ العمل الإسلامي في فقد صفته الإسلامية، ويتحول إلى حزبية ضيقة أو مصلحية آنية أو علمانية جاحدة أو طائفية ضالة.

يلفت الأنصاري في هذا التأصيل الانتباه إلى وجوب أن تأخذ الوسائل وضعها كوسائل، لا كمقاصد، وألا تتحول إلى مطلوبات لذاتها كأنها تمثل الدين، الذي عليه يكون الولاء والبراء.

ويدخل الأنصاري إلى صلب الموضوع، أي إلى نقد سلوك الإسلاميين، وكيف تحول عملهم السياسي إلى مقصد لذاته، ولا يميز نقده بين الذين اختاروا منهج التصعيد السياسي أو الذين سلكوا مسلك المساندة النقدية في المشاركة السياسية، ويعتبر أن المنهجين معا، أفضيا إلى استدراج الحركة للعب خارج ملعبها.


واضح من هذا النقد، الإٍرهاصات الأولى للتحلل من التنظيم وأخذ المسافة عنه، إذ لم يكتف بنقد الحركات الإسلامية الرافضة (جماعة العدل والإحسان) وإنما وجه نقده أيضا لحركته المشاركة (حركة التوحيد والإصلاح وحزب العدالة والتنمية)، فاعتبر أنهما معا خسرا السلاح الأساس لمواجهة استراتيجية الفجور السياسي، القائمة على تدمير البنية الخلقية للمجتمع وتدمير القابلية الفطرية للتدين، وحولا النظر للدولة والحكومة بدل النظر إلى المجتمع.

ويبدأ في تشريح نقده للحركتين، فالذين اختاروا منهج الرفض، يعانون في نظر الأنصاري من أزمتين، تصورية بسبب جعلهم الكلي (إقامة الدين) رهينة للجزئي (العمل السياسي) وعملية، نتجت عن الاستدراج الذي سيقت إليه الحركة الإسلامية بعيدا عن المجتمع، إذ ترتب عن ذلك حسب الأنصاري بناء نفسية اجتماعية لدى المتأثرين بمنهج تضخم العمل السياسي متشنجة مع العمل الدعوي تقيم حصارا ذاتيا على الدعوة والداعية. كما انتقد تحويل الدين والتدين إلى قاعدة تعبئة للمواقف السياسية، أو رصيد للاحتجاج السياسي، وأن الحركة الإسلامية بدل أن تستثمر قابلية المجتمع للتدين، لتحصن بنيته الخلقية، حولت هذا الرصيد إلى مجرد داعم للموقف السياسي، فساهمت بذلك في إهدار هذا الرصيد، وحرفه عن خدمة مقاصده الأصلية.

أما الذين اختاروا نهج المشاركة السياسية، فكان نقد الأنصاري لهم من زاويتين: الأولى استراتيجية تتعلق بعدم رسم تصور واضح ودقيق ومدروس للعمل الدعوي، والثانية، منهجية، تتعلق باكتفاء الحركة الإسلامية بالنقد دون العرض، ويجدد الأنصاري نقده السابق، ويرى أن الإسلاميين بمختلف أطيافهم، انشغلوا عن القصد الأصلي الاستراتيجي (إقامة الدين) بالاستجابة للأعمال الموسمية والاستجابة لنوازلها المتغيرة، مما حرف العمل الدعوي عن قصده، وجعله يغادر ملعبه إلى اللعب في ملعب الخصم.

الدعوي والسياسي في محط النظر التأصيلي

وتأتي الخطوة الثالثة التي خطاها الأنصاري في مشروعه النقدي، استكمالا للخطوة السابقة، أي تركيزا على تأصيل العلاقة بين الدعوي والسياسي، ففي كتابه: "البيان الدعوي" حاول أن يضع تصورات الإسلاميين لهذه العلاقة على كليات الدين ومناطاته المحققة، وأثبت خلاصته السابقة، في اشتراك الخط السياسي الصدامي والخط السياسي المشارك في فقدان الطبيعة الدعوية الكلية بسبب فقدان الموازين التصورية وتحول الجزئي إلى كلي، وتراجع الكلي إلى جزئي، فقد حرص في هذا الكتاب على أن يقدم تعريفه للحركة الإسلامية، ويبين طبيعتها ويؤكد على محورية البيان الدعوي في مشروعها، قبل أن يدخل غمار التحقيق في موقع المسألة السياسية في البناء الأصولي الإسلامي (مرتبتها)، ومناقشة ظاهرة الحركات الإسلامية والتضخم السياسي في خطابها وسلوكها، لينتهي في كتابه إلى تفصيل معالم المشروع الذي يدعو إليه.
  
ينتقد الأنصاري بشدة مركزية فكرة إقامة الدولة الإسلامية في عقائد الإسلاميين، ويعتبر أن خطأ هذا التصور مرجعه إلى اعتبار هذا الهدف مقصدا من مقاصد الشرع، في حين أن ما كان طبيعته في الدين ذلك، فإن أصل تشريعه يكون في القرآن، وأن ما بينته السنة وفصلته يكون في مرتبة ثانية، وأن ما سكتت عنه النصوص الشرعية، مما هو مناط الاجتهاد، فهو في المرتبة الثالثة، من حيث قصد الشارع، وأن عدم التنصيص عليه يدل على أنه ليس من المقصود أصالة من الدين، وإنما له حكم الوسائل التبعية.

يلتزم الأنصاري هذا البناء الأصولي ليخلص إلى أن الأصل المقصود في الشرع هو التدين والتعبد (إقامة الدين) وأن ما سكت عنه الشرع مثل إقامة الدولة الإسلامية التي هي محط نظر واجتهاد، هو من قبيل الوسائل التي لا يمكن أن تحل محل المقاصد.

ويستدل على ذلك بكون قضية الإمامة الكبرى، وأحكامها المتعلقة بنصب الخليفة، ومؤسسة الخلافة، وهيكل الدولة، وشكل السلطة، لم تنل من التشريع القرآني والتفسير السني إلا إشارات عابرة، وأن كتب الأحكام السلطانية نفسها إنما ألفت في عصور الاجتهاد وبداية عصور التقليد (القرن الرابع الهجري).

يخلص الأنصاري في محاججته الطويلة إلى أن إقامة الدولة الإسلامية، وإن كانت مطلبا شرعيا لتحقيق مناطات الأحكام المتعلقة بالمؤسسات الدولتية، إلا أنها لا تمثل كل الدين، بل تمثل مجرد آلة من آلات الدين في إقامة أحكامه، يقوده هذا التأصيل النقدي إلى إعادة تجديد نقده لظاهرة مبالغة الحركة الإسلامية في العمل السياسي، وتضخيمها لأهدافه وتأثيره، بالشكل الذي أضعف عندها الرهان على إحياء المعاني الدينية التعبدية وتجديدها في نفوس المجتمع وتحصين بنيته الخلقية وقابلية للتلقي الفطري للدين.

فريد الأنصاري في القطيعة مع الحركة الإسلامية 

في الواقع، يجسد كتابا الأنصاري: "الأخطاء الستة" و"الفطرية" محطتين مختلفتين، لكنهما في الأصل مترابطتان، ففي المحطة الأولى جسد كتاب الأخطاء الستة القطيعة مع الحركة الإسلامية، بينما جسد "الفطرية" المشروع الفكري والدعوي الذي طرحه الأنصاري لتجاوز مشروع الإسلاميين القائم على تغليب ما هو سياسي.

الواقع أن كثيرين استقبلوا كتابه الأول بصدمة كبيرة، إذ لم يكن من المتوقع أن تصل لغة النقد للحركة الإسلامية إلى السقف الذي تبناه الأنصاري في كتابه، وهو ما دفع بعض القيادات إلى تسجيل الطابع الانفعالي للكتاب، والدعوة إلى عدم الرد عليه بنفس منهجه، لكن بعيدا عن الأجواء الانفعالية، فما يهم هو تسجيل المفردات التي مثلت عناصر قطيعة في مشروع الأنصاري.

 

ثمة اليوم من تحركه الأزمة العميقة التي تعانيها الحركات الإسلامية في مختلف الأنساق السياسية العربية وتدفعه دفعا لطرح مشروع فريد الأنصاري أو بعض لوازمه (المجال التربوي وترك المجال السياسي) دون إشارة إليه، كما ولو كان هذا المشروع بالنسبة للذين اطلعوا عليه، يمثل جوابا عن لحظة الانسداد وخيارا لإعادة استئناف دور الحركة الإسلامية.

 



يعدد الأنصاري في كتابه ستة أخطاء وقعت فيها الحركة الإسلامية، وهي في مجموعها، تمثل التركيب الذي انتهى إليه سواء في كتابه "الفجور السياسي" أو "البيان الدعوي"، أي انحراف الحركة الإسلامية عن وظيفتها التربوية والدعوية، وانجرارها وراء تخصصات سياسية ونقابية واجتماعية وثقافية، انقرضت كلها، ولم يبق منها، إلا التخصص السياسي، الذي تضخم وطغى وهيمن وأكل كل شيء.
 
يلخص الأنصاري أخطاء الحركة الإسلامية في ما يلي:

1 ـ اتخاذها لحزب سياسي انتهى بها إلى إنكار وظيفتها الدعوية.

2 ـ "الاستصنام النقابي"، وكيف انتهى المطاف بالحركة الإسلامية إلى فقدان رصيدها الأخلاقي والديني، بسبب تأثرها بمخلفات الصراع الطبقي، والمقولات الماركسية، التي حكمت العمل النقابي.

3 ـ "استصنام الشخصانية المزاجية" ويرجع سبب ذلك، إلى فقدان القيادات العلمية الرسالية والربانية الحكيمة، وتصدي القيادات اللاعلمية لقيادة العمل الإسلامي على كافة مستويات الهرم الإداري.

4 ـ "استصنام التنظيم الميكانيكي" وأنه يورث التقوقع الحزبي، ويخلق مناخا مُخْتَنِقاً، لا يسمح بالإبداع، ولا التطور الداخلي، ويُرَبِّي في الأفراد، الشعور بالأنا الجماعي بالمعنى الضيق.

5 ـ سيادة "العقلية المطيعية"، نسبة إلى عبد الكريم مطيع، مؤسس الشبيبة الإسلامية، تلك العقلية التي تعتمد المناورة والمخاتلة والخداع.

6 ـ استصنام العقلية الحنبلية، وقد خص التيار السلفي بهذا العطب، والذي نتج عنه الغلو في التحقيقات العقدية، ومواجهة التصوف بشكل مطلق دون التحقيق والتمييز وتضخم الشكلانية المظهرية.

ويشكل كتاب "الفطرية" نهاية القطيعة والإعلان عن المشروع الدعوي الذي حاول الأنصاري أن يتجاوز به المشروع الحركي، فيبدأ تأصيله لهذا المشروع، من الارتكاز على مبدأ فطرية العمل الدعوي، ومحاولة استعادة دور الوحي التربوي والاجتماعي في النفس والمجتمع، حتى تتحقق مهمته، في تخريج نموذج "عبد الله". فالمعركة حسب الأنصاري هي تحرير الإنسان، فردا وأمة، من أغلال الاسترقاق العولمي، عقيدة وثقافة واجتماعا واقتصادا، وأن ذلك، لا يمكن أن يتم إلا باسترداد الإنسان لخصائص فطرته، لا سيما بعدما ما انحرف العمل الإسلامي عن القيام بدوره، وسلك مناهج الآخر.

الفطرية والانتقال من الحركة الإسلامية إلى دعوة الإسلام الفطرية

يؤسس الأنصاري مشروعه على سبع حجج أو منطلقات (مقدمات) مركزية:

1 ـ هيمنة الغرب، وتطور أسلوبه في المواجهة، في الوقت الذي تعاني منه الأمة الإسلامية التمزق والتآكل الداخلي، الذي تطور وآل إلى انهيار في وجودها المعنوي. يضع الأنصاري هذه المقدمة، ليسائل دور الحركة الإسلامية وحصيلتها (خططها وبرامجها في الممانعة والنهوض)، ويعتبر فشل الحركة الإسلامية في رفع مبشرات الإسلام النصية والمنهاجية بعالمية هذا الدين، أحد مسوغات إعادة النظر في الأساليب التربوية والمنهجيات الدعوية.

2 ـ الدعوة إلى الإسلام بدل الحركة الإسلامية: يرى الأنصاري أن الجهاز المفهومي للحركة الإسلامية، يعكس واقع أزمتها، ويعتبر أن مصطلح حركة، بما يحمله من دلالات غير إسلامية، هو لفظ غير بريء من الخلفيات الحضارية والمذهبية، وأن الأصيل في المصطلح، هو استعمال لفظة الدعوة، لأنه اللفظ الجامع لكل المعاني المشروعة. ويبرر الأنصاري استعمال هذا الاصطلاح بكونه يحيل على رجوع العمل الإسلامي إلى فطرته، وإلى طبيعته الشرعية.

3 ـ ضرورة إعادة النظر في المنهجية الحركية بالشكل الذي يجعلها تنشغل بالنص، وفي النص، وتدعو إلى النص، ويرتكز عملها بالأساس حول النص.

4 ـ الإنسان هو محور الاشتغال وهم مناط عمل الدعوة الفطرية، وأن قضية الأمة ليست هي قضية البرامج التفصيلية، وإنما هي أن يكون الناس مسلمين وأن يحضر الدين ويخترق قوى العمران المتحكمة لنسيجه: التعليم والإعلام والاقتصاد والسياسة، قاعدة العمل الدعوي: ويرى الأنصاري أن العمل الدعوي ينبغي أن يمثل العمل القاعدي التحتي الذي سيكون من مترتباته صناعة السياسة والاقتصاد والتعليم والإعلام أيضا.

5 ـ ولاية الله للشأن الدعوي، ويقصد بها أن مهمة العمل الدعوي هي صناعة الإنسان المسلم، وأن ولاية الله ونصره ستشمل المخلصين له من عباده وأن العمل الإسلامي الذي لا يتولاه الله لا يصل أبدا لغايته.

6 ـ ويعرض فيها تصوره للمسألة السياسية في العمل الإسلامي، ويخلص فيها إلى أن المنهاج الفطري يهدف إلى إنتاج سياسة تسوس السياسة، ولا تشتغل بالسياسة. فالسياسة تحضر في هذا النموذج بالقوة في كل شيء، وإن لم تحضر بالفعل.

7 ـ وضمنها بسط عناصر مشروعه الدعوي، لتحقيق ما أسماه بالنقلة النوعية من "الحركة الإسلامية" إلى "دعوة الإسلام"، فبسط ثلاثة أركان أساسية، هي: إرساء منهج تجديد العلم ومفهوم العالم، فاقترح كتابيه (أبجديات البحث في العلوم الشرعية محاولة في التأصيل المنهجي)، و(مفهوم العالمية من الكتاب إلى الربانية) لتحقيق هذا الغرض، والثاني، التأصيل النظري للعمل الدعوي واقترح كتاب "الفطرية" كمرجعية في هذا الباب، واعتبر في الركن الثالث مجالس القرآن وتلقي رسالته الجانب التطبيقي، والعمود الفقري للمشروع.

ماذا بعد الفطرية، وماذا بعد أزمة الحركة الإسلامية؟

ثمة اليوم من تحركه الأزمة العميقة التي تعانيها الحركات الإسلامية في مختلف الأنساق السياسية العربية وتدفعه دفعا لطرح مشروع فريد الأنصاري أو بعض لوازمه (المجال التربوي وترك المجال السياسي) دون إشارة إليه، كما لو كان هذا المشروع بالنسبة للذين اطلعوا عليه، يمثل جوابا عن لحظة الانسداد وخيارا لإعادة استئناف دور الحركة الإسلامية.

والحال، أن التدقيق في مفردات مشروع الأنصاري يفيد بأن الرجل يؤسس مشروعا مختلفا يبطل بشكل كلي البراديغم الحركي، ويؤسس على غراره براديغما آخر، أي أنه يجعل السياسة بكل متعلقاتها ناتجا عن عملية صناعة تربوية دعوية متمحورة على مدارسة القرآن، ويعتبر خوض السياسة بآلياتها المعروفة (حزب سياسي يشتغل ضمن العملية السياسية) اشتغالا في ملعب الآخر، وتقوية لأسلحته، وأن المنهج السليم هو بناء الإنسان، الذي سيصنع السياسة. عمليا قد تلتقي الدعوة لإعادة الاعتبار للتربوي والدعوي على حساب السياسي، مع مشروع الأنصاري، لكن هذا اللقاء لن يكون إلا ظرفيا، فمثل هذه الدعوات، تنطلق من قاعدة البراديغم الحركي، الذي غالبا ما يستنجد بالتربوي والدعوي عند انسداد النسق السياسي، ثم يعود إلى السياسة بزخم أكبر عند حصول أدنى انفراج في نسقها، كما حدث بالنسبة لحالة الإخوان زمن السادات والنهضة زمن الثورة، لكن، أبدا لا يتم النخلي عن البراديغم الحركي، الذي يجعل من الحقل السياسي، محورا أساسيا لاشتغال الإسلاميين.

تصور الأنصاري، المستوحى من نموذج الخدمة في تركيا، هو أقرب إلى بناء المجتمع الموازي للدولة، إن لم نقل الدولة الموازية، المجتمع المتدين الذي يخترق هياكل الدول وأجهزتها، فيصير من المتعذر إنتاج أي سياسة تسير في الاتجاه المعاكس لتطلعاته وهويته، وهو تصور طوباوي، ينطلق من قاعدة إمكان بناء هذا المجتمع بأدوات توجد مفاتيحها كلها بيد البنى السياسية.


التعليقات (0)